أجل ، هذا الصبر وهذه الاستقامة هما رمز انتصارهم وعامل فخرهم الكبير ، وبدونه لا يتحقق عمل إيجابي في الحياة.
ثمّ بعد هذا كلّه ، فهم لا يعتمدون على أموالهم ولا على أصدقائهم ، بل يعتمدون على الله ويتوكلون على ذاته المقدسة ، وإذ ابتغى ألف عدو هلاكهم تمثلوا قائلين : «امتحانك رحمة فلا أكترث بالأعداء».
وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيدا رأينا أن الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية ، فالصبر هو عامل الاستقامة أمام العوائق والمشاكل ، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.
وفي الحقيقة ينبغي الاستمداد من هاتين الفضيلتين (الصبر والتوكل) للأعمال الصالحة ، إذ بدونهما لا يمكن أن تؤدى الأعمال الصالحة بالمقياس الواسع (١).
وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ جواب لأولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا ، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر ، فالرازق هو الله ، لا لكم فحسب بل (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ).
قليل من الدواب والحيوانات والحشرات ـ وكذلك الإنسان ـ يأتي برزقه من الصحراء والشجر إلى وكره ومسكنه كالنحل ـ التي تنتج العسل ـ والنمل ، وغالبا ما تكون الحيوانات بمثابة «طائر اليوم» أي كل يوم عليها أن تمضي لرزقها وتبحث عنه من جديد. وهكذا فإنّ ملايين الملايين من الحيوانات التي من حولنا ، في النقاط القريبة والبعيدة ، وفي الصحاري وأعماق البحار وأعالي
__________________
(١) تحدثنا عن حقيقة التوكل وحكمته وفلسفته بإسهاب في ذيل الآية (١٢) سورة إبراهيم ، وعن حقيقة الصبر لدى تفسير الآية (١٢) من سورة إبراهيم والآية (٢٤) من سورة الرعد والآية (٢٦) من سورة الأعراف.