ترى ، حقّا أن ملكة سبأ لم تكن رأت «حامل الكتاب» ، إلّا أنّها أحست بأصالة الكتاب من القرائن الموجودة فيه؟ ولم تحتمل أن يكون الكتاب مفتعلا ومفترى أبدا ...؟!
أم أنّها رأت الرّسول بأم عينيها ، ورأت كيفية وصول الكتاب الدهشة التي هي بنفسها دليل على أن المسألة واقعية ومهمّة ، ومهما كان الأمر فإنّها عوّلت على الكتاب بكل اطمئنان؟.
وقول الملكة : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) «أي قيم» لعله لمحتواه العميق ، أو لأنّه بدئ باسم الله أو لأنّه ختم بإمضاء صحيح (١). أو لأنّ مرسله رجل عظيم ، وقد احتمل كل مفسّر وجها منها ـ أو جميعها ـ لأنّه لا منافاة بينها جميعا. وقد تجتمع جميعها في هذا المفهوم الجامع!.
صحيح أنّهم (قوم سبأ) كانوا يعبدون الشمس ، إلّا أننا نعرف أن كثيرا من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بالله ـ أيضا ـ ويسمونه رب الأرباب ويعظمونه ويحترمونه.
ثمّ إن «ملكة سبأ» تحدثت عن مضمون الكتاب فقالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٢).
ومن البعيد ـ كما يبد وـ أن يكون سليمان كتب كتابه إلى ملكة سبأ بهذه العبارات «وهذه الألفاظ العربيّة». إذا فالجمل الأنفة يمكن أن تكون منقولة بالمعنى ، أو أنّها خلاصة ما كان كتبه سليمان ، وقد أدّتها ملكة سبأ بهذه الوجازة والاقتضاب إلى قومها.
__________________
(١) ورد في الحديث أن كون الكتاب كريما هو بخاتمه «تفسير مجمع البيان والميزان والقرطبي». وجاء في حديث آخر أن الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أراد أن يكتب رسالة للعجم ، فقيل له : إنّهم لا يقبلونها إلّا بالخاتم ، فأمر النّبي أن يصنع له خاتم ونقشه «لا اله إلّا الله محمّد رسول الله» وختم الرسالة أو الكتاب بذلك الخاتم «القرطبي ذيل الآيات محل البحث».
(٢) جملة «ألّا تعلوا علي» يمكن أن تكون بمجموعها بدلا من (كتاب) وبيان لمحتواه. كما يمكن أن تكون (أن) تفسيرية فهي هنا بمعنى (أي) ـ كما يحتمل أن (أن) تكون متعلقة بمحذوف وتقديره : أوصيكم ألا تعلوا إلخ.