من وخز الضمير ونداء العقل يبحث لضلاله عن تبرير ، وللآيات عن تأويل ، مهما كانا سخيفين ومتناقضين مع أبده المسلّمات الوجدانية والعقلية ، كلّ ذلك تهرّبا من مسئولية الاعتراف بالحق.
(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)
لقد اعتذر المشركون عن الايمان بالرسالة بأنّهم لا يؤمنون بشيء غيبي لا آية محسوسة عليه ، فألحّوا على الرسول (ص) بنظرتهم الشيئية أن يريهم من الآيات المادية ما يصدّق نبوّته ورسالته ، فسأل ربّه ذلك ليقيم الحجة عليهم وأعطاه ، إلّا أنّهم أعرضوا عن الايمان ، قال علي بن إبراهيم (ر ض) : «فإنّ قريشا سألت رسول الله (ص) أن يريهم آية ، فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم ، فقالوا : هذا سحر مستمر» (١) أي دائم ، والسحر لا يدوم ، إنّما هو لحظات يخدع فيها الساحر أعين الناس ثم ينتهي ، والمشركون يدركون هذه الحقيقة ، ولكنّهم قبلوا أن يضيفوا إلى السحر نوعا جديدا لا عهد لهم ولا عهد لهم ولا للتاريخ به ، ولم يقبلوا أنّ يكون القرآن رسالة من الله ، لأنّه يجعل من الايمان به وتطبيقه مسئولية واجبة عليهم ، فهو حينئذ رسالة الله إلى أنفسهم أيضا ، والحال أنّهم يسعون بكل ما أوتوا من حيلة ومكر إلى التهرّب من المسؤولية ، ويحتمل أن تنطوي كلمة المستمر على معنى القوي أيضا ، والسحر لا قوة له لأنّه خيال لا واقع ، وسواء هذا أو ذاك فإنّ القرآن يثبت أفكارهم وأقوالهم ومواقفهم المتناقضة في ذاتها لبيان بطلانها وضلالة أصحابها.
وقد سبق أن قلنا بأنّ في قولهم بأنّ الرسالة وآياتها سحر اعترافا بتأثيره البالغ عليهم ، وبالعجز عن الإتيان بمثله ، وبسلطانه على أفئدة الناس كما السحر ،
__________________
(١) نور الثقلين / ج (٥) ـ ص (١٧٥).