كان يفترض أن تزجرهم عن الضلال والباطل فإذا بها تزيدهم طغيانا وكفرا ، وكان ينبغي أن تبكيهم فإذا بهم يضحكون ويهزأون ، وجاءت لتذكّرهم فإذا بهم يتوغّلون في الغفلة ، والقرآن يبيّن هذه الحقيقة في أواخر سورة النجم ، ويستنكر على المكذّبين واقعهم : «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ* وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ* وَأَنْتُمْ سامِدُونَ»؟! (١)
[٦] وإذا وصل الإنسان إلى حدّ الاعراض عن الحكمة البالغة أو كله الله الى نفسه ، فلا ترتجى له هداية بعد ذلك ، وصرف عنه أولياءه ، ليزداد إثما على إثم ، ويتسافل دركا بعد درك ، فيلقى جزاءه المريع الذي يقصر عنه خيال البشر.
ويأمر ربّنا مكرّرا أصحاب الرسالة بترك المعرضين عنها ، ونتساءل : لماذا؟ إنّما لحكمة بالغة تتمثّل في أنّ الاستمرار في إنذارهم ومحاولة هدايتهم سوف يتسبّب في ضياع وقت كثير منهم لا بد أن يوفّروه لما هو أنفع ، فعليهم إذن أن يبلّغوا الرسالة إلى الحدّ الذي تقوم فيه الحجة على الآخرين ، ويسقط عنهم الواجب ، فإذا تبيّن لهم عدم نفعه وجب أن يتوجّهوا إلى هداية غيرهم ، وإلى تطبيق الرسالة على أنفسهم ، وتكوين الكيان الرسالي المتكامل ، أمّا متى يتولّى الرسالي عن دعوة الآخرين؟ فإنّ تحديد ذلك يكون على ضوء البصائر الالهية ، والقيادة الرسالية تعرف ذلك.
وهناك حكمة أخرى لواجب الاعراض عمّن يجحد آيات الله هي أنّهم هم المحتاجون إلى الرسالة ، والرسالة غنية عنهم ، فلا داعي للإلحاح الزائد عليهم ، أو تغيير بعض القيم وتطويعها وفق أهوائهم ليقبلوها ، كما فعل بعض علماء النصارى حيث أدخلوا في دين الله ما ليس فيه مجاراة للسلطان أو للعوام من الناس حتى يستهويهم الدّين ، وكذلك فعل بعض الجهلة من الدعاة عند المسلمين حيث أضافوا
__________________
(١) النجم / (٥٩ ـ ٦١).