إنّها واقع مر لفريق ، ونعمة لفريق آخر في وقتها ، ولكن دورها لا ينتهي عند هذا الحدّ ، بل تبقى موعظة للّاحقين ، لذلك يسجّلها الله في كتابه لكي لا تنساها البشرية ويفوتها نفعها ، وأن يتذكّر الإنسان بغيره خير من أن تدور رحى التجارب عليه فيصير عبرة للآخرين ، وكما في الخبر : «السعيد من اتّعظ بتجارب غيره» ، من هنا ينبغي أن ندرك مدى أهمية القرآن للبشرية ، ودوره في حفظ تاريخها وتجاربها التي تطاولت عليها السنون ، وكانت لولاه تبيد وتنسى أو تنتزع منها عبرتها ولبابها ، وتضحى قشرة بالية لا تكسب الناس حكمة ، ولا تهديهم سبيلا ، كما نجد في التواريخ التي تمجّد قصص الغابرين لا تحكي سوى ظواهرها ، أمّا ما ينفع الأجيال المتلاحقة فإنّه ينسى. حقّا : إنّها سمة مميّزة لمنهج الرسالة في بيان قصص الأوّلين ، حيث تحوّلها إلى حقائق معاشة بيننا ، وذلك بالتركيز على بيان عبرها الدائمة والخطوط المشتركة بيننا وبينهم.
وهكذا أشار ربّنا سبحانه في آيات أخر إلى جانب من ذلك بعد بيان قصة نوح فقال : «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ* تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» (١). أترى كيف وصل الحدث الموغل في التاريخ بالحدث الراهن المتمثّل في الصراع المستمر بين المتقين وغيرهم وأنّ العاقبة لهم؟ وهذه من أبرز العبر في قصة نوح (ع) ، ولكنّ السفينة ذاتها آية أيضا ، ذلك أنّها حافظت على النوع البشري من الانقراض ، ومن الآيات التي تجلّت في القصة آية العذاب الالهي المهول الذي تشير إليه الآية الكريمة التالية بهدف إصلاح النفسية البشرية القائمة على الظنون والتمنّيات ، حيث يستبعد البعض العذاب من قبل الله بناء على تصوّر خاطئ بأنّه رحيم ورؤف وقد
__________________
(١) هود / (٤٨ ـ ٤٩).