ببعضه ووشائج محدّدة ، بل إن الكلمة تفيض بأوسع معاني التعاون الاجتماعي بين الإفراد ، وبذلك يضع القرآن فكرة هامة أمام أبصارنا وبصائرنا ، وهي ان المنجزات الحضارية الكبيرة كالنفاذ من الآفاق لا يمكن أن تنتقل من التطلع الى الواقع العلمي والعملي ، إلا بجهد جمعي تتعاون فيه القدرات ، وتتلاقح فيه الأفكار ، وتتكامل فيه المعارف ، وتتظافر فيه الإرادات ، ولم يكتف بذكر الانس وحدهم ، بل قال الجن والانس بينما القرآن قدم الانس على الجن حينما تحدث عن الخلق في الآية (١٤ ، ١٥) وهنا حدث العكس ، وذلك لأن السياق في تلك الآيتين يتناول الأفضلية فتقدم الإنسان لأنه الأفضل ، بينما الحديث في هذه الآية عن الأكثرية «يا مَعْشَرَ» لذلك تقدم الجن وهم الأكثر ، ويبدو ان سبب ذكر الجن في هذا السياق هو :
١ ـ إن القرآن رسالة كونية شاملة ، وهي موجهة للجن كما هي موجهة الى الانس ، فهما قد خلقا لهدف واحد هو العبادة (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) كما خلقت النار لمن عصى منهما ، (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٢) كذلك نزل القرآن لهما معا. وهناك إشارات واضحة وظاهرة الى هذه الحقيقة قال تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً .. وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً .. وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) .. (٣) ونداء كوني كهذا الذي يوجه القرآن لا يليق إلا برب العزة ، وحتى الإنسان مهما بلغ من التطلع العالمي لا يجد طريقا لمخاطبة الجن ولعل البشر يتقدم يوما حتى يصل الى مستوى التعاون مع الجن كما حدث للنبي سليمان حسب القرآن : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ
__________________
(١) الذاريات / ٥٦
(٢) السجدة / ١٣
(٣) راجع سورة الجن.