من بعد آخر ، إذ تقف أمام تراجعاته ، وتنهره عن التقصير في أداء الواجب ، وعن اقتحام الخطيئات (الآيات ١ ـ ٢).
ويستنكر السياق زعم الإنسان أنّه لن يبعث تارة اخرى بعد أن يصير أشلاء موزّعة ورميما. هل يحسب أنّ قدرة الله محدودة مثله؟ كلّا .. قدرته تفوق تصوّر البشر .. فهو ليس قادرا على جمع عظامه وحسب ، وإنّما يقدر أن يسوّي بنانه أيضا ، والإنسان حينما يراجع نفسه ويتفكّر في آيات قدرة الله في الطبيعة فإنّه يعرف تلك الحقيقة ، ولكنّه إنّما يخترع تلك الأفكار تبريرا للهروب من عرصة المسؤولية ، والإيمان بالرسالة التي تحدّد تصرفاته ولا تجعله مطلقا يتّبع الهوى كما يريد .. ويؤكّد القرآن مرة أخرى أنّ هذه هي الخلفية الحقيقة لسؤاله عن القيامة (الآيات ٣ ـ ٦).
ويداوي ربّنا هذا المرض المستعصي في النفس البشرية بالتأكيد للإنسان أنّه وإن استطاع موقّتا (في الدنيا) تبرير ضلاله والفرار من المسؤولية تحت غطائه فإنّه لن يجد في المستقبل مفرّا من ربه حينما تقوم القيامة «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ* وَخَسَفَ الْقَمَرُ* وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» وعبر قنطرة الدنيا الفانية إلى دار الاستقرار عند الله ، فهنالك يجد نفسه وجها إلى وجه مع حقيقة أمره حيث يجد ما عمل محضرا أمامه (الآيات ١٧ ـ ١٣).
ويثير الوحي فينا حسّ النقد الذاتي ، عن طريق تذكيرنا بحقيقة وجدانية مسلّمة ، ألا وهي بصيرة الإنسان على نفسه ، فإنّه قبل الآخرين شاهد عليها وعالم بواقعها ، مهما توسّل بالأعذار والتبريرات الواهية ، وإنّما يؤكّد القرآن هذه الحقيقة لأنّ المراقبة الذاتية أعظم أثرا ، وأرسخ للتقوى في شخصية الفرد (الآيات ١٤ ـ ١٥).