ثم ينعطف السياق إلى الحديث عن القرآن نفسه ، داعيا الرسول إلى عدم التعجّل به من قبل أن يقضى إليه وحيه ، مؤكّدا تكفّله تعالى بجمعه وقرآنه ثم بيانه للناس .. وهذا ممّا جعل المفسرين يتحيّرون في فهم العلاقة بين سياق السورة وبين هذا المقطع ، إلّا أنّ هناك علاقة متينة سنتعرّض لإيضاحها في البيّنات (الآيات ١٦ ـ ١٩).
وتهدينا الآيات إلى واحد من عوامل الانحراف وعدم تحمّل المسؤولية عند الإنسان ، والذي لو استطاع التغلب عليه لاهتدى إلى الحق ، وسقط الحجاب بينه وبين الآخرة ، ألا وهو حبّ العاجلة (الدنيا) على حساب الآخرة ، والبحث عن النتائج الآنية وإنكار الجزاء الآجل ولو كان الأفضل ، بل ولو كان مصيريّا بالنسبة إليه ، فهو يعيش لحظته الراهنة دون التفكير في المستقبل ، وهي نظرة ضيّقة خطيرة. وحين يفشل الإنسان في الموازنة بين الحاضر والمستقبل ، وبين الدنيا والآخرة فإنّه يخسرهما معا (الآيات ٢٠ ـ ٢١).
والحلّ الناجع لهذه المعضلة عند البشر يتمّ بإعادة التوازن بينهما إلى نفسه ، ولأنّ العاجلة شهود يعايشه بوعيه وحواسه فإنّ حاجته الملحّة إلى رفع الغيب إلى مستوى الشهود عنده ، ولذلك يضعنا القرآن أمام مشاهد حيّة من غيب الآخرة حيث الناس فريقان : فريق السعداء الذين تجلّل وجوههم النضارة ، ويصلون إلى غاية السعادة بالنظر إلى ربّهم عزّ وجلّ ، وفريق البؤساء الخاسرين أصحاب الوجوه الباسرة ، الذين ينتظرون بأنفسهم العذاب والذلّة (الآيات ٢٢ ـ ٢٥).
ويمضي بنا السياق شوطا آخر يحدّثنا فيه عن لحظات الموت الرهيبة حيث تبلغ النفس التراقي فيعالج الإنسان سكرات الموت حيث يلفّ ساقا بساق ، ويقبض كفّا ويبسط أخرى ، بلى. إنّه أوّل مشهد من الآخرة ، والنافذة على عالمها الواسع.