وهذه البصائر تنسف الثقافة التبريرية التي هي أهم أسباب التخلف والاجرام ، ذلك لأنّ الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم ، وأنشات نفسه على فطرة الاستقامة ، ثم زوّد بالنفس اللوّامة التي تراقب انحرافه بمقياس دقيق ، إنّه لا يقفز ـ مرة واحدة ـ من قمّة الحق إلى حضيض الباطل ، إنّما يهبط إليه عبر سلّم التبرير وتقديم الأعذار ، فإذا بنفسه الأمّارة بالسوء تسوّل له الخطيئة ، تقول له مثلا : أنّى لك النقاء الكامل ، أنت طيّب أكثر من اللازم ، ولا يمكنك أن تعيش من دون ظلم أحد ، كل الناس يظلمون بعضهم .. وهكذا يقدّم الأعذار لانحرافه حتى يبتعد كلّيّا عن طريق الحق ويتسافل إلى الحضيض.
وإذا عرف الإنسان الدور السلبي للأعذار وأنّها غطاء رقيق لارتكاب الجرائم الخطيرة وأنّها لا تعني شيئا ، فإنّ ذلك يساهم في استقامته على الحق.
قال الإمام الصادق (ع) : ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيئا ، أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ والله سبحانه يقول : «الآية» إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية (١) ، وقال (ع) : «ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس خلاف ما يعلم الله منه ، إنّ رسول الله (ص) كان يقول من أسرّ سريرة ردّاه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإنّ شرا فشر» (٢). واختلف في تاء «بصيرة» فقيل أنّها للتأنيث وتعود على الجوارح ، فكأنّ الآية تقول : إنّ جوارح الإنسان على نفسه بصيرة ، وقيل : هي للمبالغة فإنّ العرب تقول : فلانة علّامة ، وفلان علّامة. والذي يبدو لي إضافة إلى ذلك أنّها راجعة إلى النفس ، فنفس الإنسان عليه بصيرة ، ولم أجد من المفسرين من قال ذلك.
وقد اعتمد الفقه الإسلامي هذه البصيرة القرآنية في تحديد بعض التشريعات
__________________
(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٣٩٦.
(٢) المصدر.