واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ، ومجاوزة حد القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشحهم على حاتم ، ويبهتوا البريء ، ويفسقوا التقي. وقال ابن عباس : هو تقبيحهم الحسن ، وتحسينهم القبيح. (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) ، وذلك لغلوهم في أفانين الكلام ، ولهجهم بالفصاحة والمعاني اللطيفة ، قد ينسبون لأنفسهم ما لا يقع منهم. وقد درأ الحد في الخمر عمر بن الخطاب رضياللهعنه ، عن النعمان بن عدي ، في شعر قاله لزوجته حين احتج عليه بهذه الآية ، وكان قد ولاه بيسان ، فعزله وأراد أن يحده والفرزدق ، سليمان بن عبد الملك :
فبتن كأنهن مصرعات |
|
وبت أفض أغلاق الختام |
فقال له سليمان : لقد وجب عليك الحد ، فقال : لقد درأ الله عني الحدّ بقوله : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ). أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة ، إذ أمرهم ، كما ذكر ، من اتباع الغواة لهم ، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمه ، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم ، وذلك بخلاف حال النبوة ، فإنها طريقة واحدة ، لا يتبعها إلا الراشدون. دعوة الأنبياء واحدة ، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ، والترغيب في الآخرة والصدق. هذا مع أن ما جاءوا به لا يمكن أن يجيء به غيرهم من ظهور المعجز. ولما كان ما سبق ذما للشعراء ، واستثنى منهم من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والإكثار من ذكر الله ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ؛ وإذا نظموا شعرا كان في توحيد الله والثناء عليه وعلى رسوله صلىاللهعليهوسلم وصحبه ، والموعظة والزهد والآداب الحسنة وتسهيل علم ، وكل ما يسوغ القول فيه شرعا فلا يتلطخون في قوله بذنب ولا منقصة. والشعر باب من الكلام ، حسنه حسن ، وقبيحه قبيح.
وقال رجل علوي لعمرو بن عبيد : إن صدري ليجيش بالشعر ، فقال : ما يمنعك منه فيما لا بأس به. وقيل : المراد بالمستثنين : حسان ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وكعب بن زهير ، ومن كان ينافخ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقال عليهالسلام لكعب بن مالك : «اهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل». وقال لحسان : «قل وروح القدس معك» ، وهذا معنى قوله : (وَانْتَصَرُوا) : أي بالقول فيمن ظلمهم. وقال عطاء بن يسار وغيره : لما ذم الشعراء بقوله : (وَالشُّعَراءُ) الآية ، شق ذلك على حسان وابن رواحة وكعب بن مالك ، وذكروا ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام ، فنزلت آية الاستثناء بالمدينة ، وخص ابن زيد قوله : (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) ، فقال : أي في شعرهم. وقال ابن عباس : صار