فرأى هدهدا ، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه ، وذهب معه لينظر ، فما رجع إلا بعد العصر. وقيل : الضمير في فمكث لسليمان. وقيل : يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد ، وفي الكلام حذف ، فإن كان غير بعيد زمانا ، فالتقدير : فجاء سليمان ، فسأله : ما غيبك؟ فقال : أحطت ؛ وإن كان مكانا ، فالتقدير : فجاء فوقف مكانا قريبا من سليمان ، فسأله : ما غيبك؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان ، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه ، وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له ، فقال : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) ، وفي هذا جسارة من لديه علم ، لم يكن عند غيره ، وتبجحه بذلك ، وإبهام حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو. ومعنى الإحاطة هنا : أنه علم علما ليس عند نبي الله سليمان.
قال الزمخشري : ألهم الله الهدهد ، فكافح سليمان بهذا الكلام ، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجملة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به سليمان ، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته ، لا يخفى منه معلوم ، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إن الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أعلم منه. انتهى.
ولما أبهم في قوله : (بِما لَمْ تُحِطْ) ، انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاما ، وهو قوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) ، إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه ، وأنه له علم بخبر مستيقن له. وقرأ الجمهور : من سبأ ، مصروفا ، هذا وفي : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) (١) ، وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتح الهمزة ، غير مصروف فيهما ، وقنبل من طريق النبال : بإسكانها فيهما. فمن صرفه جعله اسما للحي أو الموضع أو للأب ، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة. والستة : حمير ، وكندة ، والأزد ، وأشعر ، وخثعم ، وبجيلة ؛ والأربعة : لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان. وكان سبأ رجلا من قحطان اسمه عبد شمس. وقيل : عامر ، وسمي سبأ لأنه أول من سبا ، ومن منعه الصرف جعله اسما للقبيلة أو البقعة ، وأنشدوا على الصرف :
__________________
(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٥.