ذلك منكم محال ، لأنه إبراز شيء من العدم إلى الوجود ، وهذا ليس بمقدور إلا لله تعالى. ولما ذكر منته عليهم ، خاطبهم بذلك ؛ ثم لما ذكر ذمّهم ، عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ، إما التفاتا ، وإما إخبارا للرسول صلىاللهعليهوسلم بحالهم ، أي يعدلون عن الحق ، أو يعدلون به غيره ، أي يجعلون له عديلا ومثيلا. وقرىء : إلها ، بالنصب ، بمعنى : أتدعون أو أتشركون؟ وقرىء : أإله ، بتخفيف الهمزتين وتليين الثانية ، والفصل بينهما بألف. ولما ذكر تعالى أنه منشىء السموات والأرض ، ذكر شيئا مشتركا بين السماء والأرض ، وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض ، ذكر شيئا مختصا بالأرض ، وهو جعلها قرارا ، أي مستقرا لكم ، بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها ، ولا يديرها الفلك ، قيل : لأنها مضمحلة في جنب الفلك ، كالنقطة في الرحى.
(وَجَعَلَ خِلالَها) : أي بين أماكنها ، في شعابها وأوديتها ، (أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) : أي جبالا ثوابت حتى لا تتكففا بكم وتميد. والبحران : العذب والملح ، والحاجز : الفاصل ، من قدرته تعالى ، قاله الضحاك. وقال مجاهد : بحر السماء والأرض ، والحاجز من الهواء. وقال الحسن : بحر فارس والروم ، وقال السدّي : بحر العراق والشام ، والحاجز من الأرض. قال ابن عطية : مختارا لهذا القول في الحاجز : هو ما جعل الله بينهما من حواجز الأرض وموانعها ، على رقتها في بعض المواضع ، ولطافتها التي لو لا قدرته لبلع الملح العذب. وكان ابن عطية قد قدم أن البحرين : العذب بجملته ، والماء الأجاج بجملته ؛ ولما كانت كل واحدة منه عظيمة مستقلة ، تكرر فيها العامل في قوله : (وَجَعَلَ) ، فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان ، ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات. ولأبي عبد الله الرازي في ذكر هذه الامتنانات الأربع كلام من علم الطبيعة ، والحكماء على زعمه ، خارج عن مذاهب العرب ، يوقف عليه في كتابه. والمضطر : اسم مفعول ، وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الالتجاء إلى الله والتضرع إليه ، فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه. وقال ابن عباس : هو المجهود. وقال السدّي : هو الذي لا حول ولا قوة له. وقيل : هو المذنب إذا استغفر ، وإجابته إياه مقرونة بمشيئته تعالى ، فليس كل مضطر دعا يجيبه الله في كشف ما به. وقال الزمخشري : الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة ، ولهذا لا يحسن الدعاء إلا شارطا فيه المصلحة. انتهى ، وهو على طريق الاعتزال في مراعاة المصلحة من الله تعالى.