(وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) : جملة حالية ، أي تحسبها في رأي العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة ، وتشبيه مرورها بمر السحاب. قيل : في كونها تمر مرا حثيثا ، كما مر السحاب ، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد ، إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها ، كما قال النابغة الجعدي في صفة جيش :
نار عن مثل الطود تحسب أنهم |
|
وقوف لحاج والركاب تهملج |
وقيل : شبه مرورها بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا ، كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها |
|
مر السحابة لا ريث ولا عجل |
وحسبان الرائي الجبال جامدة مع مرورها ، قيل : لهول ذلك اليوم ، فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها ليست بجامدة. وقال أبو عبد الله الرازي : الوجه في حسبانهم أنها جامدة ، أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت ، ظن الناظر إليها أنها واقفة ، وهي تمر مرا حثيثا. انتهى. وقيل : وصف تعالى الجبال بصفات مختلفة ، ترجع إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه. فأول الصفات : ارتجاجها ، ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ، ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ، ثم نسفها ، وهي مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها ، والأرض غير بارزة ، وبالنسف برزت ، ونسفها بإرسال الرياح عليها ، ثم تطييرها بالريح في الهواء كأنها غبار ، ثم كونها سرابا ، فإذا نظرت إلى مواضعها لم تجد فيها منها شيئا كالسراب. وقال مقاتل : بل تقع على الأرض فتسوى بها.
وانتصب (صُنْعَ اللهِ) على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها ، فالعامل فيه مضمر من لفظه. وقال الزمخشري : (صُنْعَ اللهِ) من المصادر المؤكدة كقوله : (وَعَدَ اللهُ) (١) و (صِبْغَةَ اللهِ) (٢) ، إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ ، والمعنى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ، فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين ، وعاقب المجرمين ، ثم قال : (صُنْعَ اللهِ) ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب ، حيث قال : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، يعني : أن مقابلته الحسنة بالثواب ، والسيئة بالعقاب ، من جملة أحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد ، وبما يستوجبون عليه ، فيكافئهم
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ١٢٢.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٣٨.