على حسب ذلك. ثم لخص ذلك بقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ) ، إلى آخر الآيتين. فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره ، وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغا واحدا ، وما لأمر أعجز القوى وأخرس الشقاشق ، ونحو هذا المصدر ، إذا جاء عقيب كلام ، جاء كالشاهد لصحته ، والمنادى على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما كان. ألا ترى إلى قوله : (صُنْعَ اللهِ) ، و (صِبْغَةَ اللهِ) (١) ، و (وَعَدَ اللهُ) (٢) ، و (فِطْرَتَ اللهِ) (٣)؟ بعد ما رسمها بإضافتها إليه تسمية التعظيم ، كيف تلاها بقوله : (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، و (مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (٤) ، (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٥) ، (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (٦)؟ انتهى. وهذا الذي ذكر من شقاشقه وتكثيره في الكلام ، واحتياله في إدارة ألفاظ القرآن لما عليه ، من مذاهب المعتزلة.
والذي يظهر أن صنع الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة ، وهي جملة الحال ، أي صنع الله بها ذلك ، وهو قلعها من الأرض ، ومرّها مرّا مثل مر السحاب. وأما قوله : إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ إلى قوله صنع الله ، يريد به الإثابة والمعاقبة ، فذلك لا يصح ، لأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته ، لأنه منصوب بفعل من لفظه ، فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر ، وذلك حذف كثير مخل. ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة ، وجد الجمل مصرحا بها ، لم يرد الحذف في شيء منها ، إذ الأصل أن لا يحذف المؤكد ، إذ الحذف ينافي التوكيد ، لأنه من حيث أكد معتنى به ، ومن حيث حذف غير معتنى به. وقيل : انتصب صنع الله على الإغراء بمعنى ، انظروا صنع الله. وقرأ العربيان ، وابن كثير : يفعلون بالياء ؛ وباقي السبعة بتاء الخطاب.
ولما ذكر علامات القيامة ، ذكر أحوال المكلفين بعد قيام الساعة.
والحسنة : الإيمان. وقال ابن عباس ، والنخعي ، وقتادة : هي لا إله إلا الله ، ورتب على مجيء المكلف بالحسنة شيئين : أحدهما : أنه له خير منها ، ويظهر أن خيرا ليس أفعل تفضيل ، ومن لابتداء الغاية ، أي له خير من الخيور مبدؤه ونشؤه منها ، أي من جهة هذه الحسنة ، والخير هنا : الثواب. وهذا قول الحسن ، وابن جريج ، وعكرمة. قال
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٣٨.
(٢) سورة النساء : ٤ / ١٢٢.
(٣) سورة الروم : ٣٠ / ٣٠.
(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٣٨.
(٥) آل عمران : ٣ / ٩.
(٦) الروم : ٣٠ / ١٣٠.