وانتزع بتلك الدلو ، وزاحمهم حتى غلبهم على الماء ؛ وبالأمانة : لأنها حين قام يتبعها ، هبت الريح فلفت ثيابها فوصفتها ، فقال : ارجعي خلفي ودليني على الطريق. وقولها كلام حكيم جامع ، لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمر ، فقد تم المقصود ، وهو كلام جرى مجرى المثل ، وصار مطروقا للناس ، وكان ذلك تعليلا للاستئجار ، وكأنها قالت : استأجره لأمانته وقوته ، وصار الوصفان منبهين عليه. ونظير هذا التركيب قول الشاعر :
ألا إن خير الناس حيا وهالكا |
|
أسير ثقيف عندهم في السلاسل |
جعل خير من استأجرت الاسم ، اعتناء به. وحكمت عليه بالقوة والأمانة. ولما وصفته بهذين الوصفين قال لها أبوها : ومن أين عرفت هذا؟ فذكرت إقلاله الحجر وحده ، وتحرجه من النظر إليها حين وصفتها الريح ؛ وقاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم. وقيل : قال لها موسى ابتداء : كوني ورائي ، فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا. وقال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) (١) ، وأبو بكر في عمر. وفي قولها : (اسْتَأْجِرْهُ) ، دليل على مشروعية الإجارة عندهم ، وكذا كانت في كل ملة ، وهي ضرورة الناس ومصلحة الخلطة ، خلافا لابن علية والأصم ، حيث كانا لا يجيزانها ؛ وهذا مما انعقد عليه الإجماع ، وخلافهما خرق.
(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) : رغب شعيب في مصاهرته ، لما وصفته به ، ولما رأى فيه من عزوفه عن الدنيا وتعلقه بالله وفراره من الكفرة. وقرأ ورش ، وأحمد بن موسى ، عن أبي عمرو : أنكحك إحدى ، بحذف الهمزة. وظاهر قوله : (أَنْ أُنْكِحَكَ) ، أن الإنكاح إلى الولي لا حق للمرأة فيه ، خلافا لأبي حنيفة في بعض صوره ، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها ، فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود ، وفيه دليل على عرض الولي وليته على الزوج ، وقد فعل ذلك عمر ، ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار ، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة : إذا بلغت البكر ، فلا تزوج إلا برضاها. قيل : وفيه دليل على قول من قال : لا ينعقد إلا بلفظ التزويج ، أو الإنكاح ، وبه قال ربيعة ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وداود. وإحدى ابنتي : مبهم ، وهذا عرض لا عقد. ألا ترى إلى قوله : (إِنِّي أُرِيدُ)؟ وحين العقد يعين من شاء منهما ، وكذلك لم
__________________
(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢١.