وجاء الخبر ، ففرح المسلمون. وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة ، وأن القرآن من عند الله ، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله.
وقرأ علي ، وأبو سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة ، والحسن : (غُلِبَتِ الرُّومُ) : مبنيا للفاعل ، (سَيَغْلِبُونَ) : مبنيا للمفعول ؛ والجمهور : مبنيا للمفعول ، سيغلبون : مبنيا للفاعل. وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمران : الروم غلبت على أدنى ريف الشام ، يعنى : بالريف السواد. وجاء كذلك عن عثمان ، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر ، فعز ذلك على كفار قريش ، وسر المؤمنون ، وبشر الله عباده بأنهم سيغلبون في بضع سنين. انتهى. فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا ، وبأنهم سيغلبون ، فيكون غلبهم مرتين. قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح. وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء ، يراد به الروم. وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات. انتهى. وقوله : وأجمعوا ، ليس كذلك. ألا ترى أن الذين قرأوا غلبت بفتح الغين هم الذين قرأوا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام ، وليست هذه مخصوصة بابن عمر؟ وقرأ الجمهور : غلبهم ، بفتح الغين واللام : وعلي ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة : بإسكانها ؛ والقياس عن ابن عمر : وغلابهم ، على وزن كتاب. والروم : طائفة من النصارى ، وأدنى الأرض : أقربهما : فإن كانت الواقعة في أذرعات ، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله :
تنوّرتها من أذرعات وأهلها |
|
بيثرب أدنى دارها نظر عال |
وإن كانت بالجزيرة ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى. فإن كانت بالأردن ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم. وقرأ الكلبي : (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) ، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين. ففي غلبت ، بضم الغين ، يكون مضافا للمفعول ؛ وبالفتح ، يكون مضافا للفاعل ، ويكون المعنى : سيغلبهم المسلمون في بضع سنين ، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول البضع.
أخذ المسلمون في جهاد الروم ، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ) إلى قوله : (فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، افتتاح المسلمين بيت المقدس ، معينا زمانه ويومه ، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى ، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان عينه للفتح ،