لا يكون إلا من قلة الصبر ، لأن الصبار يفوّض أمره إلى الله ، وأما الغدار فيعهد ويغدر ، فلا يصبر على العهد ؛ وأما الكفور فمقابلته معنى للشكور واضحة. ولما ذكر تعالى الدلائل على الوحدانية والحشر من أوّل السورة ، أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا اليوم العظيم.
(لا يَجْزِي) : لا يقضي ، ومنه قيل للمتقاضي : المتجازي ، وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة. ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه ، بدأ به أولا ، وأتى في الإسناد إلى الوالد بالفعل المقتضي للتجدد ، لأن شفقته متجددة على الولد في كل حال ، وأتى في الإسناد إلى الولد باسم الفاعل ، لأنه يدل على الثبوت ، والثبوت يصدق بالمرة الواحدة. والجملة من لا يجزي صفة ليوم ، والضمير محذوف ، أي منه ، فإما أن يحذف برمته ، وإما على التدريج حذف الخبر ، فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف. وقرأ الجمهور : لا يجزي مضارع جزى ؛ وعكرمة : بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول ؛ وأبو السماك ، وعامر بن عبد الله ، وأبو السوار : لا يجزىء ، بضم الياء وكسر الزاي مهموزا ، ومعناه : لا يغني ؛ يقال : أجزأت عنك جزاء فلان : أي أغنيت. ويجوز في (وَلا مَوْلُودٌ) وجهان : أحدهما : أن يكون معطوفا على والد ، والجملة من قوله : (هُوَ جازٍ) ، صفة لمولود. والثاني : أن يكون مبتدأ ، وهو مبتدأ ثان ، وجاز خبره ، والجملة خبر للأول ، وجاز الابتداء به ، وهو نكرة لوجود مسوغ ذلك ، وهو النفي. وذهل المهدوي فقال : لا يكون (مَوْلُودٌ) مبتدأ ، لأنه نكرة وما بعده صفة ، فيبقى بلا خبر و (شَيْئاً) منصوب بجاز ، وهو من باب الأعمال ، لأنه يطلبه (لا يَجْزِي) ويطلبه (جازٍ) ، فجعلناه من أعمال الثاني ، لأنه المختار. وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : نغرنكم ، بالنون الخفيفة. وقرأ سماك بن حرب ، وأبو حيوة : الغرور بالضم ، وهو مصدر ؛ والجمهور : بالفتح ، وفسره ابن مجاهد والضحاك بالشيطان ، ويمكن حمل قراءة الضم عليه جعل الشيطان نفس الغرور مبالغة.
وقال الزمخشري : فإن قلت قوله : (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) هو وارد على طريق من التوكيد ، لم يرد عليه ما هو معطوف عليه. قلت : الأمر كذلك ، لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله : (هُوَ) ، وقوله : (مَوْلُودٌ) ، والسبب في مجيئه هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين ، وغالبهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي ، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس أن ينفعوا آباءهم في الآخرة ، وأن يشفعوا