معرفة لتقديره قيامكم لله. وعطف البيان فيه مذهبان : أحدهما : أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة ، وهو مذهب الكوفيين ، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب ، وإنما هو وهم من قائله. وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) (١) عطف بيان من قوله : (آياتٌ بَيِّناتٌ) (٢) ، وذلك لأجل التحالف ، فكذلك هذا. والظاهر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر ، والنهوض فيه بالهمة ، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين ، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده. والمعنى : إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم ، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين ، وواحدا واحدا ، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به. وإنما قال : (مَثْنى وَفُرادى) ، لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر ، وتخليط الكلام ، والتعصب للمذاهب ، وقلة الإنصاف ، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة ، فلا يوقف فيها على تحقيق. وأما الاثنان ، إذا نظرا نظر إنصاف ، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له ، فلا يكاد الحق أن يعدوهما. وأما الواحد ، إذا كان جيد الفكر ، صحيح النظر ، عاريا عن التعصب ، طالبا للحق ، فبعيد أن يعدوه. وانتصب (مَثْنى وَفُرادى) على الحال ، وقدم مثنى ، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة ، إذا انقدح الحق بين الاثنين ، فكر كل واحد منهما بعد ذلك ، فيزيد بصيرة. قال الشاعر :
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة |
|
فيزداد بعض القوم من بعضهم علما |
(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) : عطف على (أَنْ تَقُومُوا) ، فالفكرة هنا في حال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفيما نسبوه إليه. فإن الفكرة تهدي غالبا إلى الصواب إذا عرى صاحبها عما يشوش النظر ، والوقف عند أبي حاتم عند قوله : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ، نفي مستأنف. قال ابن عطية : وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم ، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين ، ويكون على هذا في آيات الله والإيمان به. انتهى. واحتمل أن يكون تتفكروا معلقا ، والجملة المنفية في موضع نصب ، وهو محط التفكر ، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة على محمد صلىاللهعليهوسلم. فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلا ، وأثبتهم ذهنا ، وأصدقهم قولا ، وأنزههم نفسا ، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز ، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن ، ولا يذهب إلى ذلك عاقل ، وأن من
__________________
(١ و ٢) سورة آل عمران : ٣ / ٩٧.