فرائصه ، وانكسر قلبه ولسانه ، وطاش عقله ، ولم يبق منه عظم يحمل آخر ، وصار بمنزلة الميت إلّا أنّ روح الحياة تجري فيه ، فبعث الله إليه ملكا كأحسن شيء خلقه الله ، فشدّ له عضده وظهره ، ورجّاه وبشّره ، فرجف وهو مرعوب ، فلما انتهى إلى الشجرة قال له : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ)(١) ، فخلعهما ، وكانت نعلاه من جلد حمار ميت ، فطير ـ يعني ـ غير مدبوغ ، قال : فخلعهما ، ثم قال : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ : هِيَ عَصايَ) ، قال : ما تصنع بها؟ ولا أحد أعلم بذلك منه جل وعزّ ، قال : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى)(٢) ، قال : قد علمتها ، وكانت مآرب موسى أنها كانت عصا لها شعبتان ومحجن تحت الشعبتين ، وزج في طرفها ، فكان يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه ، وإذا طالت شجرة حناها بالمحجن ، وإذا أراد أن يقوّس شجرة تطوّل لها لواها بالشعبتين ، وكان إذا مشى (٣) ألقاها على عاتقه ، فيعلّق بها قوسه وكنانته ومرجمته (٤) وحلابه (٥) وإداوته ، وزادا إن كان معه ، وإذا ارتعى في البرية التي ليس فيها ظل ركزها في الأرض ثم أعرض زنده بين شعبتيها ثم ألقى عليها كساءه ، فاستظلّ ما كان مرتاعا ، وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل الرشاء بالمحجن ، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه ، فكانت هذه من مآربه التي أراد أن يقص ، ولكن منعه من ذلك الخوف ، فأجمع القصة بقوله (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى ، قالَ : أَلْقِها يا مُوسى) ، فظنّ موسى أنه يقول : ارفضها ولا تقبض بها ، (فَأَلْقاها) موسى على وجه الرفض ، ثم حانت منه نظرة ، فإذا هو بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون ، في مثل بدن البختي العظيم ، إلّا أنه أطول منه ، مسرعة تدبّ على قوائم قصار غلاظ شداد ، قد جعلت الشعبتان له فم (٦) مثل القليب الواسع ، فيها أضراس وأنياب ، وقد جعل المحجن له عرفا نابتا له شعر مثل شعر البازل ، قد جعل له عينان يتوقدان نارا ، وجعل يدبّ كأنه يبتغي شيئا ليأخذه ، إلّا أنه ليمر بالشجرة العظيمة فيطعن بناب من أنيابه في أصلها ، فيجدّ لها ثم يبتلعها ويمرّ بالصخرة العظيمة مثل الحلقة فيبتلعها حتى إنّه ليسمع تقعقع الصخرة في جوفها ، فلمّا عاين ذلك موسى (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ)(٧) ، فذهب على وجهه حتى أمعن ، وظنّ أنه قد أعجز الحيّة ، ثم ذكر أنه
__________________
(١) سورة طه ، الآية : ١٢ وفي التنزيل العزيز : فاخلع نعليك.
(٢) سورة طه ، الآيتان ١٧ و١٨.
(٣) في «ز» : إذا شاء.
(٤) المرجمة : القذافة.
(٥) الحلاب : بالكسر الإناء يحلب فيه اللبن (تاج العروس : حلب).
(٦) كذا بالأصل ود ، و «ز» : «فم» والوجه : فما.
(٧) سورة القصص ، الآية : ٣١.