للمتّقين المخلصين. جاء في السّيرة أنّ أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ، فمكث ساعة ، ثم قال : أين ابن أبي كبشة؟ يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وأبو كبشة زوج حليمة السعدية ، وهو أبوه من الرّضاع ، أين ابن أبي قحافة؟ ـ أي أبو بكر ـ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر : هذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا ذا عمر ، فقال أبو سفيان : يوم بيوم ، والأيّام دول ، والحرب سجال. فقال عمر رضياللهعنه : لا سواء ، قتلانا في الجنّة ، وقتلاكم في النّار ، فقال : إنكم تزعمون ذلك ، فقد خبنا إذن وخسرنا (١).
إن تقلّب الأحوال بين الدّول ليظهر العدل ويستقرّ النظام ، ويعلم الناظر في السّنن العامة ، وليظهر الله علمه بتحقق إيمان المؤمنين ، وانكشاف الصابرين على مناجزة الأعداء ، كقوله : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال ٨ / ٣٧] أي ليعلم الناس الفرق بينهما ويميزوه ، ولذا قال النّبي صلىاللهعليهوسلم بعد موقعة أحد لمطاردة المشركين : «لا يذهب معنا في القتال ـ أي في غزوة حمراء الأسد ـ إلا من قاتل» فذهب المؤمنون الصّادقون بالرّغم من تعبهم وعنائهم. وقد فسّرنا : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) بأن يظهر الله علمه بذلك للناس بما يعلم به ، إذ علم الله بالأشياء ثابت في الأزل ، فما يقع يكون مطابقا لعلم الله السابق في الأزل ، وعلم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع ، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة.
وليعدّ الله أناسا للشهادة في سبيل الله ، فيقتلون في سبيله ويبذلون أرواحهم في مرضاته ، فقد فات بعض المؤمنين الاستشهاد يوم بدر ، فتمنوا لقاء العدو ، ليحظوا بمرتبة الشهادة. وقد كرّم الله الشهداء بالحياة البرزخية ، وبالدرجة الموازية للأنبياء ، فقال : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران ٣ / ١٦٩] ، وقال : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ) [النساء ٤ / ٦٩].
__________________
(١) تفسير ابن كثير : ١ / ٤١٢ ، تفسير القرطبي : ٤ / ٢٣٤