سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد الغشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله ـ عزت آلاءه ـ في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم ، وكلمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار والأسماع والأفئدة ، يذكّرون بأيام الله ويخوّفون مقامه ، بمنزلة الأدلة في الفلوات ، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه ، وبشروه بالنجاة ، ومن أخذ يمينا وشمالا ذمّوا إليه الطريق ، وحذروه من الهلكة ، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات ، وأدلة تلك الشبهات ـ
وإن للذكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا ، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع ، يقطعون به أيام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين ، يأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحققت القيامة عليهم عذابهم ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون (الخطبة ٢١٣).
ولأن أصل الذكر هو في القلوب فخير الذكر هو في أوعى القلوب وكما قال لكميل بن زياد : «يا كميل! إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فاحفظ عني ما أقول لك : الناس ثلاثة ، فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا ينور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق ـ
اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إما ظاهرا مشهورا ، وأما خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، وكم ذا وأين؟ أولئك والله الأقلون عددا ، والأعظمون عند الله قدرا ، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ، أولئك خلقاء الله في أرضه ،