ولكنما التأنّق في سائر مضمونها يدلنا إلى أن تلك المقاولة المسائلة ليست هي ظاهرها الواقع ، بل هي من مسارح الحقيقة أن لو كانت هنالك مسائلة لكانت كما هيه ، وهذه هي طريقة القرآن ، الفريدة في تبين الحقائق ، تصويرا بصورة المسائلة ليعقلها العالمون ، وكما «قال (لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٤١ : ١١) (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٦ : ٨٢) (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) (١٠ : ٢٩) مع العلم أن الأصنام والأوثان والنبات والحيوان ، بين شركاءهم ، ليست لتتكلم ، وإنما هو قالها الحال.
وإن الكيان الإنساني ليرتعش من أعماقه حين يتحلى ذلك المشهد الرائع الباهر ، ويتملّى اختجالا أمام ربه حين يسأل : ألست بربكم ـ وإجابة «بلى» سابقة سابغة حيث يرى فطرته الذرية مصبوغة بها ، فلما ذا أنكرها بعد إلى خلافها؟
ولأنها آية مسائلة الذرية فلنجعلها في مسائلة حول ما هي الذرية ومسائلته؟ سرا وتقسيما دلاليا ، وبضمنها ردا أو قبولا لما ورد حول الذرية من روايات وآراء.
لماذا «أخذ ربك» دون «الله» أم «رب العالمين»؟ علّه لأن ذلك الأخذ هو في موقف تربوي خاص ، والهدف الأسمى والغاية القصوى هي
__________________
ـ الباب ، وليس لهم أن يقولوا : إذا جاز في العقل الكامل أن ينسى ما كان عليه في حال الطفولة جاز ما ذكرناه ، وذلك إنما أوجبنا ذكر العقلاء لما ادّعوه إذا كملت عقولهم من حيث جرى لهم وهم كاملوا العقول ، ولو كانوا بصفة الأطفال في تلك الحال لم نوجب عليهم ما أوجبناه ، على أن تجويز النسيان عليهم ينقض الفرض في الآية وذلك أن الله تعالى أخبر بأنه إنما قررهم وأشهدهم لئلا يدعوا يوم القيامة الغفلة عن ذلك ، وسقوط الحجة عنهم فيه ، فإذا جاز نسيانهم له عاد الأمر إلى سقوط الحجة وزوالها ، وإن كانوا على الصفة الثانية من فقد العقل وشرائط التكليف قبح خطابهم وتقريرهم وإشهادهم وصار ذلك عبثا قبيحا يتعالى الله عنه ...».