ذلك الصبر والصمود الذي كان في القلة المؤمنة الصابرة ، إذا فليخفف في التكليف.
ذلك ولا حاجة إلى تأويل العلم هنا بما تعوده المتأولون من خلاف الظاهر الباهر ، إنما هو العلم بما هو حاصل من المعلوم بعد تحويل القلة إلى الكثرة ، فقد كان يعلم من القلة الصابرة القوة فكلفهم كما يستطيعون ، ثم كان يعلم من الكثرة غير الصابرة ضعفا في الصمود والثبات المقدام فخفف المعشار إلى النصف.
أجل وان الله تعالى عالم السر من ضمائر المضمرين ونجوى المتخافتين ، وخواطر رجم الظنون ، وعقد عزيمات اليقين ، ومسارق إيماض الجفون ، وما ضمنته أكنان القلوب وغيابات الغيوب ، وما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع ، ومصايف الذرّ ، ومشاتي الهوامّ ، ورجع الحنين من المولهات ، وهمس الأقدام ، ومنفسح الثمرة من ولائج غلف الأكمام ، ومنقمع الوحوش من غير ان الجبال وأوديتها ، ومختبأ البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها ، ومغرز الأوراق من الأفنان ، ومحطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب ، وناشئة الغيوم ومتلاحمها ، ودرور قطر السحاب في تراكمها ، وما تسقي الأعاصير بذيولها ، وتعفو الأمطار بسيولها ، وعوم بنات الأرض في كثبان الرمال ، ومستقر ذوات الأجنحة بذرى شناخيب الجبال ، وتغريد ذوات المنطق في دياجير الأوكار ، وما أوعبته الأصداف وحضنت عليه أمواج البحار ، وما غشيته سدفة ليل ، أو ذرّ عليه شارق نهار ، وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير وسبحات النور ، وأثر كل خطوة ، وحس كل حركة ، ورجع كل كلمة ، وتحريك كل شفة ، ومستقر كل نسمة ، ومثقال كل ذرة ، وهما هم كل نفس هامّة ، وما عليها من ثمر شجرة ، أو ساقط ورقة ، أو قرار نطفة ، أو نقاعة دم ومضغة ، أو ناشئة خلق وسلالة ، لم يلحقه في ذلك كلفة ، ولا اعترضته في حفظ ما ابتدع من خلقه عارضة ، ولا اعتورته في تنفيذ الأمور وتدابير المخلوقين ملالة ولا فترة ، بل نفذهم علمه ، وأحصاهم عدده ، ووسعهم أعدله ، وغمرهم فضله ، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله (الخطبة ٨٩).