وترى «يعذبهم» لا تنافي (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وان الدنيا دار عمل ولا حساب والآخرة دار حساب ولا عمل؟
العذاب المسلوب كما قدمناه هو عذاب استئصال وما أشبه بيد القدرة الربانية دون سيط الإنسان ، ثم العذاب هنا ليس حسب الحساب المخصوص بالأخرى ، إنما هو شطر ضئيل منها تتقدم هنا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
والقتل والحصر والتشريد وما أشبه ، كما الحدود والتعزيرات ، هي عذابات مأمور بها بأيدي المؤمنين على المتخلفين عن شرعة الله تأديبا لهم وتأنيبا وردعا وتقليلا للفساد.
ذلك «وقاتلوهم» هذا قد يمتد أمره إلى فتح مكة التي تجمع كل هذه المواصفات ، فسائر الحروب الفاتحة لم تكن تحمل منها إلا يسيرا قصيرا ، وإنما فتح مكة هو الذي حمل كل هذه المواصفات لقبيل الإيمان.
وهنا (غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) في إذهابه رحمة عليهم خروجا لقلوبهم عن التغيظ التضيق بما أصيبوا من مكائد الكفار ، فهي رحمة صالحة لهم ، وهناك غيظ آخر في ذهابه رحمة عليهم وعلى الآخرين الذين يجب كظم الغيظ عنهم لكونهم مؤمنين ، وهذا مجال قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): «ما من جرعة يتجرعها الإنسان أعظم أجرا عند الله من جرعة غيظ في الله» (١).
والقصد من جرعة الغيظ هنا الصبر عند الاهتياج ، واللظم عند الانزعاج ، وترك إتباع
نوازع النفس إلى ما تدعوا إليه في تلك الحال من شفاء غيظ ، أو تنفيس كرب ، أو إطلاق عقال ، أو فعل مراقبة لله سبحانه
__________________
ـ الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء فالتفت فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام) والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
(١) المجازات النبوية للسيد الشريف الرضي (٩٦).