إنه لم يكن في أمر يعقوب أن يذهبوا إلى العزيز إلّا ضمن ما يتحسس عن بنيامين عنده ، فضلا عن أن يكتب إليه بكتاب يمس من كرامة النبوة والإيمان كما يهرفه المحرّفون الخارفون ، وفضلا عن أن يطلبوا إليه تصدقا عليهم شكوى إليه من الضر الذي مسهم وأهليهم ، وهم في هذا اللقاء لم يطلبوا إليه تسريحا لبن يامين لا ظاهرا ولا تصريحا ، وإنما المطلوب أولا وأخيرا إيفاء الكيل ببضاعة مزجاة وتصدقا زائدا على الإيفاء ، اللهم إلّا أن تشمله «تصدق» وليس بذلك البعيد ، ولكنه ـ إذا ـ مطلوب ضمني في آخر المطاف ، وليكن أولا لأنه أولى من إيفاء الكيل.
وعلّهم لأنهم في هذه الجيئة الفجيعة لا يرجون من العزيز تعزيزهم لسابق السرقة من أحدهم فيما يزعمون ، لا ينطلق ألسنتهم لإطلاق سراح أخيهم صراحا ، فعلّهم يجربونه بتقديم بيان حالهم وأهليهم ، فإذا عرفوا انعطافا طلبوا إليه طلبهم الأصيل ، وقد تطلبوه في (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا).
دخلوا عليه للمرة الثالثة ، ولكنها مرّة فالسة كالسة ، وقد أضرت بهم المجاعة ، ومستهم وأهليهم الضر والضراوة ، ونفدت منهم كل بضاعة إلّا مزجاة مقلعة ، يدخلون منكسرين منحسرين ما لم يعهد لهم من ذي قبل وعند ذلك تمت كلمة الربوبية : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) في واجهته أمام الإخوة حيث ذلوا وانكسروا أمامه.
و (بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) كأنها الكاسدة غير الطائلة من متاع قليل رثّ ، لأنها البقية الباقية مما يملكون ، حيث المزجاة من الإزجاء الإقلاع قلة إلى قلة كما أن (اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) فالسحاب مزجاة مقلعة من مختلف الأبخرة الجوية ، قليلة قليلة ، فإذا ألفت كثرت ، مهما بان البون بين مزجاة ومزجاة!
فبضاعة مزجاة من هؤلاء الذين مسهم وأهلهم الضرّ ليست إلّا