(آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ومن ثم (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ..).
هنا تبدأ حلقة ثالثة هي أخطر الحلقات وأبلاها ، وأخطر من هدر النفس والنفيس ، فانه جوّ تهدّر العصمة والخلوص لله ، (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ)! :
(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢٣).
(الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) هي امراة العزيز ، وهذه صيغة سائغة عنها وعن موقفه (عليه السلام) دون (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) فالبيت بيتها ، وهو في بيتها وتحت إمرتها وملكتها ، مما تزايدها سلطة عليه وتأمرا ، وتزيده عجزا عن المقاومة وتذمرا.
وبطبيعة الحال في يوسف ، وهو في بداية الحلم وقوة بالغة في فورة الجنس وثورته شابا في غليان الشهوة وفوران الشبق ، في بلاط ملكي له كل وسائل العيش وأسباب الرياحة والترح ، كان له ان يراودها ، وهي بطبيعة الحال شابة جميلة تائقة في غرامها ، متزينة ـ على جمالها ـ بأرقى زينها ، متدللة متغنجة تتوق إليه نفسها ، مشغوفة بحبه ، والهة تائهة في وصاله! فائقة الجمال ، عزيزة العزيز ، عشيقة والهة تتوق إليها النفوس ، فتانة رنانة حنّانة ، لا يرد رأيها ولا يثنّى أمرها ، وقد ربّته كما أمرت في إكرام بالغ لمثواه ، ولكنه ـ رغم كل هذه وتلك ـ لم ينظر إليها نظرة شهوة ، ولا خلد بخلده لها لهوة ولا لحظة ، فهي هي التي تراودها عن نفسه ، مما يزيده إليها هوى ، والمراودة من الرّود : التردد في طلب شيء برفق ولينة ، بكل سعي وإصرار وحيلة ، والرائد الذي يرسل في التماس النجعة وطلب الكلاء ، والمراودة عنه استلاب المراد ممن هو عنده (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ)