فكيف تدعى من دون الله ، وهذا وإن كان في نفسه صحيحا ولكن الصيغة الصالحة له صحيحة فصيحة هي «يعلم انهم لا يدعون من دونه من شيء» إلّا ان عنايتها ضمن الثلاثة الأولى لا بأس بها ، فعلّ الأربعة كلها معنية ، ويا لها من جماع العلم المحيط لله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وإن الأمثال المضروبة للناس في هذا القرآن بالغة لحدّ من التمثيل منقطع المثيل أنها (ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) فرغم ان جماعة من المشركين المجاهيل يتخذونها مادة للسخرية والتهكم قائلين : ان رب محمد يتحدث عن الذباب والبعوضة والنحل والعنكبوت ، (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ..) (٢ : ٢٦).
فالعالمون هناك هم المؤمنون هنا ، كما الذين لا يعلمون في آيات عدة هم الذين كفروا ، فالإيمان بالله يزيل الأغشية عن الأبصار والبصائر فأصحابها يعقلون تلك الأمثال الحكيمة القرآنية ، كما والعالمون العلوم التجريبية يعقلون ، فان كانوا مؤمنين فأحرى واكثر ، وان كانوا كافرين فقد يهتدون بها ان أرادوا الهدى ، حيث العلم بنفسه طريق الهدى إذا لم تخلطه الردى.
والعقل الحرّ أيا كان يعقل هذه الأمثال مهما كان مجردا عن علم الايمان وسائر العلم ، إذا فالعقلية الايمانية ، ثم العلمية ، ثم العقلية المجردة ، هي شركاء ثلاثة في ان تعقل هذه الأمثال دون اختصاص بعقلية الايمان ، وإلّا لم تعد هذه الأمثال تنفع غير المؤمنين ، والذين اتخذوا من دون الله اولياء هم الموجّه لهم في الأصل ذلك المثل الأمثل ، تحريضا لهم ان يعلموا الحق منه ومن أمثاله بالتعقل ، وما القولة الكافرة (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) إلّا جاهلة تخالف العقل.