ثم الحاجز بين الأرضي والسماوي أن يبغيا هو تقدير الرحمان ، المحجور عن الإنس والجان! وأما الحاجز بين البحر الأرضي والأنهار فليس محجورا لا عن البصائر ولا الأبصار ، فإنه علو الأنهار على البحار واختلاف أماكنها.
فقد مرج البحرين : أرسلهما طاميين ، وأمارهما مائعين ، فهما يلتقيان بمقاربة مقارفة المرج المزج ، وليست بالمزج ، وإنما ضمّن المرج هنا معنى المزج لأنهما أرسلا رسلهما الرامي إلى مزجهما ، الواقع بدوافعه تماما لو لا الحجر المحجور ، والبرزخ الحاجز ، الذي يمنعهما عن الانخراط ، ويصد كلا منهما عن الانفراط ، فلا يبغي أحدهما على الآخر فيقلبه إلى صفته ، أو ينقصه عن حدته ، لا الملح الأجاج على العذب الفرات ، ولا العذب على الملح الأجاج ، اللهم إلا في مرج المزج غير الباغي ، كما يمزج ماء البحار بمياه الأنهار ، بعد ما يصبح بخارا وأمطارا ، ويمزج مياه العيون والأنهار بمياه البحار إذ تصب فيها ، ولكنه مرج ومزج بحساب وميزان ، إذ يأخذ كل قدر ما يعطي ، دون بخس في المكيال ولا إخسار في الميزان ، وهذا أيضا من الحاجز بينهما ، كما الحاجز بين مياه البحر والأنهار ، إلا أنه حجر غير محجور.
ولو لا الحاجز بين البحرين : بين العذب والمالح في البحر ، وبين البحار المالحة والأنهار العذبة ، وبين التفاعلات عبر التبدلات ، لبحر الأرض والسماء ، لولاه لتعطلت الحياة أو استحالت ، فالملح الأجاج الذي يغمر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ضرورة لتطهيرها بجوها وإفساحها المجال للحياة من حيوان البحر وسواه ، والعذب المدخر في مخازن الأرض ، والساري في مساريها ، والكائن في البحار أيضا كعروق أو أنهار (١) ضرورة للشرب والإنبات ، كل على قدره.
__________________
(١) كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري خلاله فراسخ لا يتغير طعمها ، وكما تجعل دجلة البحر بحرين ، كذلك هو وسائر البحر بحران ، الأولان مالحان ، والآخران مالح هو المالحان ، وعذب هو دجلة.