ترى لو لا أن (الرَّحْمنُ .. َلَّمَهُ الْبَيانَ) من أين كان له هذه النعمة القمة السابغة ، السابقة سائر النعم ، الحاوية كافة القيم؟ لنأخذ مثالا ساذجا من وسائل البيان : اللسان وما معه من جهازات الصوت ، عضلانيا وشعوريا : ينتقل شعور ضرورة أو رجحان الإفادة أو الاستفادة من القلب وزملائه إلى الجهازات الصوتية ، فتطرد الرئة ، ما تحتاجه الكلمة من الهواء المخزّنة فيها ، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة المحيرة للعقول ، فيصوت الهواء في الحنجرة صوتا تشكله حسبما قرره الإنسان وكيفما قرر : سرعة وبطؤ ام ماذا؟ ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفلك والأسنان ، يمر بها الصوت ، فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة ، وفي اللسان خاصة يمرّ كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع خاص ، يتم فيه ضغطه ، ليصوت الحرف بجرس خاص .. وذلك كله كلمة واحدة وراءها ومعها جنود الأفكار والمشاعر والضمائر والإحساسات ، عوالم غريبة وكلها من فضل الرحمن الذي (عَلَّمَهُ الْبَيانَ)! (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) :
هذان السراجان ـ سراج النهار وسراج الليل ـ انهما كسائر الكون بحسبان : يصاحبهما حسبان من الرحمان منذ كان لهما كيان ويكون : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) (٦ : ٩٦) ترى أن الحسبان هنا هو الحساب : فهما مخلوقان بحساب ، ومجريان بحساب ، ويعرف بهما الحساب :
(وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (١٠ : ٥) ام إنهما في جحيم العقاب كما يرسل الحسبان على من يستحق العذاب : (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) (١٨ : ٤٠) وكيف يعذبان؟ وهما كوكبان طائعان لأمر الرحمان! وبما ذا يعذبان؟ اللهم إلا في تأويل يتيم بجانب