أن ذلك ليس من عيوب الأعراف والتقاليد الإسلامية ، بل يعتبر على العكس من ذلك مؤشرا على مدى كفاءة الكتاب واعتماده على مصادر من الدرجة الأولى تستحق كامل الثقة بل والاقتداء بها.
ولما كان الطهطاوي رجلا عالما شأنه في ذلك شأن الصفار ، فقد كان عليه القيام بدور مماثل ، وهو تقديم الوعظ والنصائح الدينية إلى مجموعة من المسلمين غير المتبحرين في شؤون الدين ، أثناء إقامتهم في وسط تسود فيه ثقافة أجنبية عنهم. وقد كان مصدر المعرفة الذي نهل منه الرجلان واحدا ، كما كانت نظرتهما إلى العالم مماثلة ، هذا رغما عن عدم وقوع لقاء سابق بين شخصيهما. إذ كانت تجمع بينهما نوع من القرابة الروحية التي جعلت الصفار يطمئن إليه ، ويستمد منه كل ما كان في حاجة إليه بطريقة بسيطة. وكان الصفار يقدر الطهطاوي لسبب آخر ، هو أن العالم المصري سمحت له الظروف بالمكوث مدة قاربت خمس سنوات في باريز ، بينما لم يقم هو نفسه بالعاصمة الفرنسية سوى خمسين يوما. ويعترف الصفار بأنه لم يتردد في البحث عند الطهطاوي عن كل ما يعوزه في تجربته الشخصية وخاصة في كل ما يتصل بخصوصيات المجتمع الفرنسي.
غير أن هناك حدودا واضحة للتشابه الموجود بين الرحلتين ، لأن الظروف التي تمت فيها كل واحدة منهما تظل مختلفة. وحينما غادر الطهطاوي مصر متجها إلى فرنسا خلال سنة ١٨٢٦ ، كانت الحركة الإصلاحية في بلاده قد أخذت طريقها منذ مدة ، بفعل وجود إرادة حديدية لدى حاكم البلاد محمد علي باشا (١). وإن مظاهر التغيير وأنماطه التي بدأت تحدث على أرض الواقع في الديار المصرية لم تؤخذ بعد بعين الاعتبار في المغرب ، ولم تعرف بداياتها الأولى إلا بعد مرور عشرات السنين.
إذ كان العديد من المصريين يدرسون ويناقشون مواضيع في الفلسفة الفرنسية وعلوم السياسة ، والقوانين والأعراف الاجتماعية ، والمعرفة العلمية ، وكلها أشياء لا عهد للمغاربة وقتئذ بفهمها أو بتقديرها حق قدرها. والدليل على ذلك ، هو الغياب الكلي والمطلق عند محمد الصفار في رحلته لبعض المواضيع الوارد ذكرها في كتاب الطهطاوي. ولا بد من التذكير أيضا بأن الطهطاوي كان مبعوثا إلى فرنسا من لدن قائد
__________________
(١) عن حركة الإصلاح في مصر ، انظر الآتي :
A. L. as ـ Sayyid Marsot, A Short History of Modern Egypt) Cambridge, ٥٨٩١ (, pp. ٤٥ ـ ٦٦.