سياسي كان يوجد يومئذ في وضعية المهاجم. هذا في حين كان الصفار قد أرسلته زعامة تعيش في فترة اتسمت بالتراجع. وكان هدف الطهطاوي هو أن يكون مدافعا عن الإصلاحات ، بينما لم تتجاوز نوايا الصفار مستوى القيام بالمشاهدة وتحرير وصف لها على هيئة تقرير. ومن جهة أخرى ، فإن رحلة الطهطاوي لقيت كل التشجيع ونالت إعجاب الخديوي بها ، بينما لم يقرأ رحلة الصفار إلا عدد محدود من الأشخاص الموجودين ضمن حاشية السلطان ، والذين كانت مواقفهم من التغيير مشكوكا في طبيعتها إلى حد كبير. ويمكن القول في نهاية التحليل إن كل هذه العوامل المتباينة قد حددت طبيعة كلتا الرحلتين وجعلت إحداهما تختلف عن الأخرى.
غير أن ما ينفرد به الصفار في رحلته ، هو أن ملاحظاته تأتي مباشرة فورية. فقد شاهد فرنسا بعيون الرجل الذي يفضل التوصل إلى معرفة الأشياء عبر التجربة المباشرة والمعيشة ، بدلا من المعرفة المكتسبة من الكتب. ومن ثم جاءت رحلته مليئة وغنية بالانطباعات الحية التي خالجته في حينها وعبر عنها بكامل الصدق والوفاء. إن مفهوم الملاحظة الشخصية أو المشاهدة ، يعني محاولة التعلم واكتساب المعرفة دونما حاجة إلى عنصر وسيط. إذ كان الرحالة الكلاسيكيون يعتبرون ذلك النهج طريقة مثلى وذات فعالية كبيرة لكسب المعرفة (١). وكانت إشارة الصفار إلى هذا المبدأ بصريح العبارة ، بل وذهب إلى حد تدعيمه بأمثلة ملموسة. ويقول في هذا الصدد : «وما حصلت جم الفوائد إلا من مخالطات البشر» (٢). وأتحفنا الصفار من خلال وصف مشاهداته بتفاصيل دقيقة ، وكأنه يريد إقناعنا بحضوره الفعلي وبمعاينته الحقيقية وقتئذ لتلك الأشياء الموصوفة. وعلى الرغم من عدم الاستيعاب الكلي لوظيفة الأشياء التي كلف نفسه عناء وصفها ، فإنه لا يتوانى عن التفصيل في الحديث واصفا جزئياتها الكبيرة والصغيرة ، لأن التدقيق في التفاصيل شيء ذو قيمة
__________________
(١) «ونقل المعاينة أوعب وأتم من نقل الخبر والعلم ، فالملكة الحاصلة عن الخبر على قدر جودة التعليم وملكة المتعلم [...] وحصوله ملكته». المقدمة ، انظر ، ص. ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ، من الطبعة العربية. وعن المزيد من الإشارات المتعلقة بمدى أهمية الحقيقة المعيشة لدى رحالة العصر الوسيط ، انظر الآتي :
Eickelman," Art of Memory", p. ١٠٥ note ٠٢; A. Miquel, Ge؟ographie humaine ١ : ٥٣١.
(٢) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.