في حد ذاته ، وفيه إدراك للحقيقة. وفي ذلك الإطار قدم الصفار جاهدا شروحا دقيقة حول مجموعة من التجارب العلمية المليئة بالألغاز ، كما أحصى بالعد والعدد الشموع المضيئة لإحدى قاعات الأكل. بالإضافة إلى نقله الأمين لأشكال القناطر وبنياتها وتصاميمها الهندسية المعقدة.
وإذا كان الصفار حريصا على تصوير تلك الأشياء بكل تفصيلاتها ، فإن هدفه لم يكن مجرد الوصول إلى تقديم صورة عنها أقرب إلى الحقيقة ، بل هو أنه يؤكد لنا بالبراهين عمق وجوده الفعلي بين أحضان تلك الأشياء الموصوفة. وبالرغم من أن الوفاء والحرص على مسايرة التقليد ، كان جيل محمد الصفار لا يزال يعتبره مقياسا أساسيا للحقيقة ، فإن تأكيده على فردانيته ، وتقديمه لتجربته كعمل مستقل وقائم الذات ، هو بمثابة مؤشر على بداية ظهور الجديد ، وبأسلوب أدبي أكثر واقعية ، يجمع بين الحاكي والمحكي عنه بشكل أكثر حميمية وإيحاء بالألفة مما كان معهودا في الماضي. إنها ليست مجرد تفاصيل وتدقيقات لأشياء ورد الحديث عنها بطريقة اعتباطية حبا في ذكر التفاصيل لذاتها ، بل هي في واقع الأمر تأكيد للذات ، وتنبيه إلى أن الأمر يتعلق بصدفة لقاء حقيقية مع الجديد (١).
وعلاوة على ذلك ، فإن الصفار يفرق بطريقة متأنية بين ما شاهده بعينيه ، وبين ما قاله الآخرون له ، وفي هذا مزيد من الرفع لمقدار مصداقيته. إذ تكررت عنده عبارات من قبيل : «يزعمون أن» ، أو «يقولون إن» ، وما شابهها من المؤشرات المنبئة بأن الخبر الوارد قد أتاه من مصدر ثان ، ربما كان هو الترجمان المرافق لأعضاء البعثة ، مما يجعلنا ننظر إلى الخبر بعين الريبة والحذر على الفور. وتنبه الصفار إلى أن الفرنسيين كانوا يسلكون خطة مدروسة بإحكام من خلال برنامج الزيارات الذي حضروه لإطلاع أعضاء البعثة على مختلف مظاهر الحياة الفرنسية. فقد ظل المغاربة تحت المراقبة المباشرة لمضيفيهم الفرنسيين ، فنقلوهم من مواضع سياحية إلى أخرى ،
__________________
(١) انظر على سبيل المثال رحلة الغساني ، افتكاك ، التي لا توجد فيها سوى أوصاف مقتضبة للأشياء التي شاهدها الرحالة المغربي بالمقارنة مع ما قدمه محمد الصفار. وعن تنامي الواقعية في كتابه القصة في الأدب الإنجليزي خلال القرن الثامن عشر ، انظر :
Ian Watt, the Rise of the Novel : Studies in Defoe, Richardson and Fielding) Berkeley, ٧٥٩١ (, ch. ١.