عناصر أكد مدى قابليتها للتمزق خلال اللحظات التي تستغرقها الرحلة.
لقد وجد الصفار نفسه منذ وصوله إلى فرنسا أمام مشاهد وأشياء مثيرة كانت جميعها غير معهودة لديه. وشكلت العلاقة بين الزمان والمكان عنصر ارتباك فوري وآني لدى محمد الصفار ، بفعل التباين التكنولوجي الموجود بين فرنسا والمغرب. إذ قدم الرحالة من عالم يتنقل فيه المسافرون على الأقدام أو على الدواب ، ليحل بأوربا التي دشنت وقتها انتقالها من مرحلة الاعتماد على القدرات الحيوانية إلى القوة الميكانيكية. وفي المغرب يمكن أن يقطع المسافر مسافة طولها ثلاثة أو أربعة أميال في ساعة زمنية ، حسب الأحوال التي تكون عليها مسالك المرور. أما في فرنسا فقد كانت نسبة السرعة حسب المدة الزمنية ، تفوق ذلك بمرتين حتى في حالة استعمال وسائل النقل المعتمدة على القوة الحيوانية ؛ إذ بلغت سرعة الأكداش الفرنسية في أربعينيات القرن التاسع عشر حوالي ستة أميال في الساعة ، وهي نسبة تبدو مع ذلك هائلة جدا في نظر إنسان مغربي (١).
وكان لقاء الصفار للمرة الأولى مع تلك الأبعاد الجديدة للسرعة أثناء تنقله في العربة بين مرسيليا وأورليان. وعندما صعد إليها ، انخدع بمظهرها فبدت له من فرط تجهيزاتها وكأنها «في الحقيقة بيت من البيوت» ، لكنها ما لبثت فجأة أن بدأت تجرها الخيول في عرض الطريق بسرعة كبيرة ، جعلت البيت الهادئ يتحول إلى قذيفة تخترق الأجواء وتحطم كل المفاهيم المعروفة عن قدرة الجسم البشري على قطع المسافات. وحينما ركب الصفار متن القطار لعبور المسافة الفاصلة بين أورليان وباريز ، ارتبكت في ذهنه كل المفاهيم المعهودة لديه عن العلاقة بين عنصري المسافة والزمن. وعلى الرغم من أن السكة الحديدية كانت لا تزال في خطواتها الأولى ، فإن القاطرة كانت تتحرك بسرعة أكبر من عربات الخيول بمعدل يقارب الثلاثين ميلا في الساعة (٢).
لقد وصف الصفار ذلك الإحساس الغريب الذي انتابه حينما وجد نفسه
__________________
(١) انظر ما كتبه العروي حول سرعة التنقل ونسبها في المغرب : ٤٤ ـ ٥٤.Laroui ,Origines ,pp. أما المعطيات المتعلقة بفرنسا ، فهي مأخوذة عن بينكني : Pinkney ,Decisive Years. واستفدنا في المناقشات التالية حول السكة الحديدية في بداياتها الأولى ومدى تأثيراتها النفسية في الركاب مما كتبه شيفيلبوش : Schivelbusch ,Railway Journey ,ch.٤
(٢) Pinkney ,Decisve years ,p.٣٥.