محمولا على متن عربة القطار ، فقال بأنه : «يسير ... سيرا لم يعهد مثله في الإسراع يكاد أن يساير الطير في الهواء ... وكنا ننظر إلى جوانب الطريق فلا نرى ما فيها من الأحجار أو غيرها إلا كأنها خيوط متصلة ذاهبة معنا ، ولا نحقق الحجر ولا غيره» (١). إن هذه الإشارة إلى الشعور بالطيران لم تكن أمر مقصورا على الرحالة المسلمين دون غيرهم ، لأن الرحالة الأوربيين استعملوا أيضا تعبيرا مماثلا على وجه التقريب عند حديثهم عن ركوب القطار للمرة الأولى ؛ وهو شعور يفقد عنصري الزمان والمكان قوتيهما المعهودتين لدى الشخص ، لأن الرحلة التي كان من المفروض أن تستغرق في المغرب أياما معدودة قد تمت في ساعتين ونصف فقط. إننا نعرف جيدا أن تصور فكرتي الزمان والمكان وكذا العلاقات القائمة بينهما ، من الأمور المحددة ثقافيا ؛ كما أننا نعرف أيضا أنه من الممكن الاستئناس بتلك العلاقات عن طريق التجربة المتكررة. وكانت تلك هي الحالة عند ركوب القطار الذي أصبح في آخر الأمر من الأشياء الروتينية سواء عند الغربيين أم عند غيرهم. وما تتميز به حالة محمد الصفار أنها تجعلنا حاضرين بين أحضان الجديد ومعايشين للحدث في حالته الخالصة من أي مشاعر أو معرفة مسبقة لعناصره.
وتحتوي الرحلة على أمثلة دقيقة وأساسية أخرى عن العلاقات القائمة بين عنصري الزمان والمكان. وقد انتقل الصفار ، أثناء وجوده في فرنسا ، من عالم يقاس فيه الزمن بطقوس العبادات إلى عالم يقاس فيه العنصر نفسه ، وفي غالبية الأحيان ، بالحركات الميكانيكية لعقارب الساعة. وفي المغرب ، كما هو الحال أيضا في جميع بلدان العالم الإسلامي ، فإن إيقاع اليوم تتحكم فيه أوقات الصلاة ومواعيدها. إذ يستيقظ المرء ليصلي صلاة الصبح ، ويتناول وجبة الغذاء بعد صلاة الظهر ، ثم ينهي نهاره بأداء صلاة العشاء. وكان إيقاع الحياة الإسلامية بكل مظاهرها يسير في عالم الذكور وفقا لأوقات محددة تتحكم فيها مواعيد الصلاة ، سواء أتعلق الأمر بإبرام عقود وصفقات أم تعلق بتحديد لقاءات أو ما شابه ذلك. وبعبارة أخرى ، كان تذكير المرء بأوقات اليوم وساعاته يتم دائما بواسطة نداء المؤذن المنبعث من صوامع المساجد. وبذلك كان إيقاع مواقيت الصلاة أدق وسيلة توقيت يمكن أي يطمئن لها المسلم ، كما يطمئن سكان العاصمة البريطانية لندن لساعة بيك بن الشهيرة.
__________________
(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.