ويتبيّن به أنّ الوجود حقيقة مشكّكة ذات مراتب مختلفة ، كما مثّلوا (١) له بحقيقة النور على ما يتلقّاه الفهم الساذج (٢) أنّه حقيقة واحدة ذات مراتب مختلفة في الشدّة والضعف ، فهناك نور قويّ ومتوسّط وضعيف مثلا ، وليست المرتبة القويّة نورا وشيئا زائدا على النوريّة ، ولا المرتبة الضعيفة تفقد من حقيقة النور شيئا أو تختلط بالظلمة الّتي هي عدم النور ، بل لا تزيد كلّ واحدة من مراتبه المختلفة على حقيقة النور المشتركة شيئا ، ولا تفقد منها شيئا ، وإنّما هي النور في مرتبة خاصّة بسيطة لم تتألّف من أجزاء ولم ينضمّ إليها ضميمة ، وتمتاز من غيرها بنفس ذاتها الّتي هي النوريّة المشتركة.
فالنور حقيقة واحدة بسيطة ، متكثّرة في عين وحدتها ، ومتوحّدة في عين كثرتها. كذلك الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مختلفة بالشدّة والضعف والتقدّم والتأخّر والعلوّ والدنوّ وغيرها (٣).
ويتفرّع على ما تقدّم امور :
الأمر الأوّل : أنّ التمايز بين مرتبة من مراتب الوجود ومرتبة اخرى إنّما هو بنفس ذاتها البسيطة الّتي ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز. ولا ينافيه مع ذلك أن ينسب العقل التمايز الوجوديّ إلى جهة الكثرة في الوجود دون جهة الوحدة ،
__________________
(١) راجع الأسفار ١ : ٤٩ و ٦٩ ـ ٧١ ، وشرح المنظومة : ٢٢ ـ ٢٣.
(٢) تلويح إلى أنّ النور على ما يتلقّاه الفهم الساذج حقيقة عرضيّة بسيطة ذات مراتب مختلفة.
وأمّا بالدقّة العلميّة فهو مركّب من ذرّات أو أمواج أو ذرّات موجيّة.
(٣) والحاصل : أنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة في عين أنّها كثيرة ، كالنور الحسّيّ الّذي يرجع فيه كلّ ما به الامتياز (وهو النور الشديد والضعيف ، والمتقدّم والمتأخّر و...) إلى ما به الاشتراك (وهو النور) ؛ أو كالواحد لا بشرط (وهو الوحدة الجمعيّة والسعيّة الّتي للعدد) ، فإنّ الاثنين واحد وواحد ، والثلاثة واحد وواحد ، ولم يفترقا إلّا بالواحد ، كما لم يتقوّما ولم يشتركا إلّا به ؛ فالأعداد بجميع مراتبها الغير المتناهيّة منازل الواحد لا بشرط ، بل هو أصلها وأساسها وعادّها ومبديها. فما في السماوات والأرضين أعداد اعتباريّة قوامها بالواحد لا بشرط الّذي هو الوجود المفاض من الفيّاض المطلق.