وتحليتها بالفضائل ، ومتابعة الشرع والتأدّب بآدابه ، وملازمة التقوى وتحمّل الأثقال في طريق الوصال ، وملازمة الذكر في الخلوة حتى يتنوّر القلب ويتخلى من صدء الشهوات النفسانيّة والخواطر الشيطانيّة ، وطلب الحظوظ الدنيويّة ، وتحصل له الجمعيّة ، فتكون الهموم همّا واحدا ، فحينئذ يصير القلب صافيا مستعدّا ، قابلا لأصناف العلوم الكليّة الحقيقيّة ، فتنطبع العلوم النظريّة بحقائقها في مرآة سرّه بأدنى فكرة ، فلا ينظر إلى شيء إلا ظهرت له حقيقته ، ظهورا يجري منه مجرى العيان ، فلو كشف الغطاء ما ازداد يقينا ؛ وهذا من باب الهداية التي تمدّها الإنابة ؛ كما قال الله سبحانه : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) والاجتباء للأنبياء والأولياء والهداية للعلماء.
والحكيم ما لم يبلغ هذه المرتبة لا يكون حكيما ، لأنّ الحكمة من مواهب الله (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).
والدليل على ذلك كله من الكتاب والسنّة كثير ، قال الله تعالى حكاية (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي بين الحقّ والباطل. (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).
وفي الحديث : «ليس العلم بكثرة التعلّم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه» «العلم نور وضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه وأنطق به على لسانهم». «الجوع سحاب الحكمة ، فإذا جاع العبد مطر بالحكم». «من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» «من علم وعمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم».
وفي كلام أمير المؤمنين عليهالسلام : «إن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه ، فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف ، فظهر مصباح الهدى في قلبه» ـ إلى أن قال : ـ «قد خلع سرابيل الشهوات وتخلّى من الهموم إلا همّا واحدا انفرد به ، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ، فصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه وسلك سبيله ، وعرف مناره وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس».
وفي كلام آخر له عليهالسلام : «قد أحيى قلبه وأمات نفسه حتى دقّ جليله ولطف غليظه ، وبرق له لامع كثير البرق ، فأبان له الطريق وسلك به