فليس ما نراه من الفيض شيئا غريبا ، أو ما نسمعه منه بدعة وعجيبا ؛ ولكن الواجب على المتأمّل أن يتأمّل في مطاوي كتبه ويطابق ما كتبه أولا وآخرا حتّى يرى مدى تغيير روحيّاته العلميّة ، وجذور اعتقاداته الشرعيّة ؛ لا أن يقنع بما قرأ سطورا من الرسالة الإنصافيّة ، ويحكم ـ كما نراه من البعض ـ حكما بتّيا بناء على ظاهر ما فهم منه في الابتداء ، ويبني عليه ما يريد ويحبّ من البناء.
فالذي نعرفه من الفيض أنّه في سيرته العلميّة سائر في مختلف الأبعاد : فهو ـ كما أشرنا ـ فقيه أخباريّ ، ومحدّث ، وحكيم إلهيّ ، وشاعر أديب ذو قريحة عرفانية يحكي عن الحبّ الإلهي والعشق المعنوي ؛ وهذه الأبعاد المختلفة ظاهر من مبدئه ، وسائر فيها إلى وفاته ، وقد تكامل في جميعها ، كما تكامل في ذلك مصنفاته تبعا لمؤلفها ؛ وأشار نفسه إلى ذلك أيضا في مقدمة فهرست مصنفاته الثالثة (١):
«هذا فهرست مصنفاتي التي صنّفتها منذ راهقت العشرين ، إلى أن بلغت ثلاثا وثمانين ، كتبت للضبط والتعريف ، وهي مائة تصنيف ، متفاوتة في الجودة والإتقان ، وحسن التعبير والبيان ، وسلامة الألفاظ ومتانة المباني ، وعلوّ المقاصد ودقّة المعاني ، ورتب الترتيب والتوضيح ، ودرج التهذيب والتنقيح ؛ حسب تدرّجي في الارتقاء في مراقي الكمال ، ومدارج الإيمان ، والخروج من ظلمات الجهل إلى نور العرفان ...».
وعند التأمل في مصنّفاته نرى أنّه تكامل في مختلف الجهات ، لا أنّه تغيّر فيه شيئا من البناء والأساس ؛ ونراه في الأخير راعيا حفظ مختلف الجوانب عند ما يقول ويعبّر ، لا أنّ مؤلّفه رجع عمّا كان يعتقد ويظهر.
فبالنسبة إلى أنّه كان أخباريّا ، فقد بقي عليه إلى آخر عمره ـ على ما يظهر ـ غير أنّه صار في التعبير عن عقيدته أنضج ، وفي مراعاة جانب الاحتياط أشد وأوفق.
__________________
(١) ـ الفهرست المطبوع في مقدمة الجزء الثاني من المحجة البيضاء : ٣٩.