الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل؟!» (١) ؛ فهي لم تكن ـ كما يوهمه عمى البصيرة ـ جزعا منها عليهاالسلام أو عتابا لأمير المؤمنين ، وإنّما هيعليهاالسلام في صدد بيان انحراف القوم وشدّة ضلال ما ارتكبوه ، ولكي يتبيّن أنّ عليّا عليهالسلام لم يكن سكوته عن مقاتلتهم تخاذلا منه أو جبنا أو نكصا عن الحقّ ، بل لأنّ صدامه المسلّح معهم يوجب تزلزل عقيدة الناس بالدين ، والنزاع على السلطة في نظر وذهنية عامّة الناس من أكبر أمثلة التنازع على الدنيا وأعظمها ، وبالتالي سيسري شكّهم في دواعي الوصيّ عليهالسلام إلى دواعي ابن عمّه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّ كلّ ما جرى هو تغالب على الملك ، كما قال ذلك يزيد بن معاوية :
لعبت هاشم بالملك فلا |
|
خبر جاء ولا وحي نزل (٢) |
وقال أبي سفيان عند فتح مكّة للعبّاس : «إنّ ملك ابن اخيك لعظيم» فأجابه العبّاس : «إنّها النبوّة» (٣). فالناس ليس لديهم الوعي والبصيرة الكافية في كون خطورة هذا الانحراف هو شبيه الانحراف الذي حصل في الديانة اليهودية والمسيحية ، وليس هو محض مسند القدرة في النظام الاجتماعي السياسي.
ثمّ إنّ من سيرة هارون عليهالسلام تستخلص العبر ؛ إذ المحافظة على وحدة بني إسرائيل أوجبت عدم المصادمة المسلّحة بين فريقي الحقّ والباطل ، لكن الوحدة لم توجب ذوبان فريق الحقّ في فريق الباطل ، ولا تركهم للنصيحة والوعظ بأسلوب المداراة ، والوحدة التكتيكية لم توجب إيقاف الإصلاح والأمر بالحقّ والنهي عن الباطل بأسلوب الحكمة وطريق الموعظة الحسنة ، فضلا عن التنكر والريب في ثوابت الحقّ ، ولا استحسان الباطل وموادّته ، ولا كراهة الحقّ والازدراء به.
__________________
(١). الأمالي ـ للشيخ الطوسي ـ ٦٨٣ ح ١٤٥٥ ، المناقب ـ لابن شهرآشوب ـ ٢ / ٥٠.
(٢). تذكرة الخواصّ : ٢٣٥ ، البداية والنهاية ٨ / ١٥٤ ، الإتحاف بحبّ الأشراف : ٥٧.
(٣). الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٣٥ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٧ / ٧٦.