الضروريات. وبيان أن هذا الاختلاف واقع : هو أن الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة ، ولا حالة في المتحيز مثل : العقول والنفوس والهيولى. واتفقوا على أن الشيء الذي يشير إليه كل إنسان بقوله : أنا. فهو موجود ، وليس بجسم ولا بجسماني. ولم يقل أحد من العقلاء : إنهم في هذا القول منكرون للبديهات ، بل نقول. إن جمعا من أكابر المسلمين (١) اختاروا هذا المذهب مثل معمر بن عباد السلمي من المعتزلة ، ومثل أبي سهل [النوبختي (٢)] ، ومحمد بن النعمان من الرافضة. ومثل أبي القاسم الراغب ، وأبي حامد الغزالي من أهل السنة والجماعة وأيضا : فأكثر العقلاء من أرباب الملل والنحل المختلفة أطبقوا على تنزيه الله تعالى عن كونه متحيزا ، وعن كونه حالا في المتحيز ، وعن كونه داخلا في العالم ، وخارجا عنه. فيثبت بما ذكرنا : أن هذه القضية لو كانت بديهة لامتنع وقوع الاختلاف فيها ، ولما ثبت أن الاختلاف واقع فيها ، بل الأكثرون ينكرون تلك القضية ، ويقطعون بفسادها ، لزم القطع بأنها ليست من البديهيات.
الحجة الثانية : إن صريح العقل شاهد بأن التقسيم الصحيح أن يقال : الموجود إما أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز ، أو لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز. ولو أنا قلنا : الموجود إما أن يكون متحيزا ، أو حالا في المتحيز. واقتصرنا على هذا القدر. فإن بدائه العقول قاطعة بأن هذا التقسيم غير تام. بل لا بد وأن نضم إليه القسم الثالث ، وهو الذي لا يكون متحيزا ، ولا حالا في المتحيز حتى يتم ذلك التقسيم. ولو أن قائلا قال : هب أن هذا القسم معتبر بحسب التقسيم ، إلا أنه معلوم الامتناع بالبديهة. فنقول : ليس الأمر كذلك ، لأنا إذا عرضنا على بديهة العقل قولنا : إن هذا القسم ممتنع الوجود ، وعرضنا أيضا على البديهة : أن الواحد ضعف الاثنين. فإنا نجد البديهة جازمة بكذب هذه الثانية ، وغير جازمة بالأولى. ومن أنكر التفاوت بين الصورتين كان مكابرا في أجلى البديهيات وأقواها. فيثبت بما ذكرنا : إن إثبات موجود ليس
__________________
(١) جمهور أكابر (س).
(٢) من (و).