تعالى مباينا للعالم ، منفردا عنه ممتازا عنه وكونه تعالى كذلك ، لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى ، فبطل قولكم إنه تعالى لو كان حاصلا في الحيز والجهة ، لكان مفتقرا إلى الغير. والذي يدل على صحة ما ذكرناه : أنه لا نزاع في أن العالم مختص بالحيز والجهة ، وكونه كذلك لا معنى له إلا كون بعض الجواهر ممتازا عن البعض ، منفردا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا ، فلم لا يجوز مثله في كونه تعالى مختصا بالحيز والجهة؟ والجواب : أما قوله : «الحيز والجهة ليس أمرا موجودا في الأعيان» فجوابه : إنا بينا بالبراهين القاطعة : أنها أشياء موجودة في الأعيان ، وبعد قيام البراهين القاطعة على صحة هذه المقدمة ، فإنه لا يبقى في صحتها شك. وأما قوله : «المراد من كونه تعالى مختصا بالحيز والجهة ، كونه تعالى منفردا عن العالم ، أو ممتازا عنه ، أو مباينا عنه».
فنقول : هذه الألفاظ كلها محتملة ، فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية. وذلك مما لا نزاع فيه ، ولكنه لا يقتضي الجهة. والدليل عليه : أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة. فإن امتياز ذات الله تعالى عن الجهة لا يكون بجهة أخرى. وإلّا لزم التسلسل. وقد تذكر هذه الألفاظ ويراد بها الامتياز في الجهة والحيز ، وهو كون الشيء بحيث يصح أن يشار إليه : أنه هاهنا أو هناك. وهذا مراد الخصم من قوله : إنه تعالى مباين عن العالم ومنفرد عنه ، وممتاز عنه. إلا أنا بينا بالبراهين القاطعة : أن هذا يقتضي كون ذلك الحيز أمرا موجودا [ويقتضي أن يكون الحاصل في ذلك الحيز محتاجا إلى الحيز. وقوله : «الأجسام حاصلة في الأحياز» فنقول : هذا (١)] يقتضي أن تكون الأجسام محتاجة إلى الأحياز ، وهذا غير ممتنع. أما كونه تعالى محتاجا إلى شيء آخر فهو ممتنع. فظهر الفرق.
الحجة الثالثة : لو كان تعالى مختصا بالحيز والجهة ، لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجوانب ، أو يكون متناهيا من بعض الجوانب ، وغير متناه من
__________________
(١) من (و).