لا شك لنا فيه ، ثم لما فتحنا العين ونظرنا إليه حصلت حالة زائدة على الحالة الأولى في الخلاء والكشف. وصريح العقل حاكم بأن هذه المرتبة الثالثة أكمل وأقوى من المرتبة الثانية ، كما أن المرتبة الثانية كانت أقوى وأكمل من المرتبة الأولى.
إذا عرفت هذا فنقول : إنا إذا علمنا أن العالم ممكن ، علمنا أن كل ممكن فلا بد له من سبب ، وعلمنا أن الدور والتسلسل باطلان ، فحينئذ نعلم أن هذه الممكنات يجب انتهاؤها إلى موجود واجب الوجود لذاته. فههنا المعلوم : إثبات موجود ، يستند غيره إليه ولا يستند هو إلى غيره ، والمعلوم هاهنا أمور ثلاثة : أحدها : الوجود المطلق. والثاني : وجوب استناد غيره إليه ، وهذا نفس الإضافة. والثالث : امتناع استناده إلى غيره وهذا سلب. فيثبت أن المعلوم هاهنا وجود مقيد ، يفيد إضافة ويفيد سلبا ، وكل ذلك مغاير للحقيقة المخصوصة التي لواجب الوجود.
فيثبت : أن الحاصل عندنا من معرفة الله تعالى ليس إلا المرتبة الأولى. وأما المرتبة الثانية فهل هي حاصلة لأحد من الخلق؟ وبتقدير أن لا تكون حاصلة لأحد ، فهل هي ممكنة الحصول للملائكة فقط ، أو لهم وللأنبياء ، أو هي ممكنة الحصول للكل؟ وهذه المباحث لا بد فيها من البحث. أما المرتبة الثالثة فهل هي ممكنة الحصول لأحد من الخلق أم لا؟ هذا هو المراد من قولنا : إن رؤية الله تعالى هل هي ممكنة الحصول أم لا؟ فهذا تمام البحث عن قولنا : إنه هل تصح رؤية الله تعالى أم لا؟.
وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أن رؤية الموجود الذي لا يكون مختصا بالمكان أو الحيز ، هل هو معلوم الامتناع في بديهة العقل أم لا؟ فنقول : القول الصحيح : إن الرؤية بالتفسير الذي ذكرناه ليست معلومة الامتناع في بديهة العقل ، وذلك لأنا في هذه الحياة علمنا الله تعالى علما واقعا في المرتبة الأولى ، وعلمنا أنه منزه عن الجسمية والمكان. فهل يمكن أن نعلم الله تعالى علما واقعا في المرتبة الثانية مع العلم بكونه منزها عن الجسمية والمكان؟ وإذا ثبت هذا فهل يمكن إدراكه على الوجه الواقع في المرتبة الثالثة ، مع كونه منزها عن الجسمية