وصلت العقول إلى كنه حقيقته ، لحصل للخلق استيلاء على الحق من بعض الوجوه ، أما لما عجزت العقول عن معرفته ، كان الخلق أبدا في ذلك القهر وعجز المعرفة ، وكان الاستيلاء والقهر للحق ، وذلك هو الواجب.
الحجة الثامنة : قالوا : العقل لا يقدر على استحضار معلومين دفعة واحدة. بدليل : أنه إذا اشتغل باستحضار معلوم ، امتنع عليه في تلك الساعة استحضار معلوم آخر ، فإذا كان العقل عاجزا عن استحضار معلومين دفعة واحدة فكيف يمكنه الوصول إلى كنه حقيقة أعظم المعلومات ، وأعلاها؟.
واحتج القائلون بكون الخلق عارفين بذاته المخصوصة بوجوه :
الحجة الأولى : إن كل تصديق ، فإنه يجب أن يكون مسبوقا بتصور الموضوع والمحمول. فإذا قال القائل : إن حقيقته غير معقولة للخلق ، كان موضوع هذه القضية : هو قولنا حقيقته. ومحمولها : هو قولنا : غير معقولة للخلق. والحاكم باستناد هذا المحمول إلى هذا الموضوع ، يجب كونه عالما بهذا الموضوع ، وبهذا المحمول ، حتى يمكنه هذا الاستناد. فيثبت : أن صدق قولنا : إن حقيقته غير معلومة للخلق ، يقتضي كون حقيقته معقولة للخلق من حيث إن موضوع القضية يجب أن يكون معلوما ، وما أدى نفيه [إلى ثبوته ، كان نفيه (١)] باطلا. فوجب أن يكون قولنا : [حقيقته (٢)] غير معقوله للخلق : قولا باطلا. فإن قالوا : إن تلك الحقيقة معقولة بحسب بعض صفاتها وأحوالها. فنقول : إذا قلنا إن حقيقته غير معقولة فموضوع هذه القضية ، إما أن يكون تلك الحقيقة من حيث هي هي ، أو تلك الحقيقة بحسب بعض صفاتها وأحوالها. فإن كان الأول لزم كون تلك الحقيقة من حيث إنها هي معقولة للخلق. لما بينا أن موضوع القضية من الاعتبار الذي به صار موضوعا للقضية ، يجب أن يكون متصورا. فإذا كان موضوع هذه القضية هو تلك الحقيقة من حيث إنها هي ، وجب كون تلك الحقيقة من حيث هي هي ،
__________________
(١) من (س).
(٢) من (س).