الآيات في سورة طه أنّه الحياة الدنيا الشقيّة.
لكنّك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها ، وتشتّت أطرافها وأنحائها ، وعلى وحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر ، وجدتها بحسب الباطن والحقيقة مختلفة في الموردين ، بحسب ذوق العلم بالله والجهل به.
فالعارف بمقام ربّه إذا نظر إلى نفسه ، وكذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات ، وأنواع الآلام والمكاره : من موت وحياة ، وصحّة وسقم ، وسعة وإقتار ، وراحة وتعب ، ووجدان وفقدان ، على أنّ الجميع أعمّ ممّا في نفسه وغيره مملوكة لربّه ، لا استقلال لشيء منها وفيها ـ بل الكلّ ممّن ومن عند من ليس عنده إلّا الحسن والبهاء والجمال والخير ، على ما يليق بعزّته وجلاله ، ولا يترشّح من لدنه إلّا الجميل والخير ـ لم ير مكروها يكرهه ، ولا مخوفا يخافه ، ولا مهابا يهابه ، ولا محذورا يحذره ، بل يرى كلّ ما يراه حسنا جميلا محبوبا ، إلّا ما يأمره ربّه أن يكرهه ويبغضه ، وهو مع ذلك يكرهه لأمره ويحبّ ويلتذّ ويبتهج بأمره ، لا شغل له إلّا بربّه ، كلّ ذلك بما أنّه يرى الجميع ملكا طلقا لربّه ، لا نصيب ولا حظّ له ولا لغيره في شيء منها ، فما له ولمالك الأمر وما يتصرّف به في ملكه من إحياء وإماتة ، ونفع وضرّ وغيرها ، فهذه هي الحياة الطيّبة التي لا شقاء فيها البتّة.
وفي مقابلها حياة الجاهل بمقام ربّه ؛ إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربّه لا يقع بصره على موجود ـ من نفسه وغيره ـ إلّا رآه مستقلّا بنفسه ، ضارّا أو نافعا ، أو خيرا أو شرّا ، فهو يتقلّب في حياته بين الخوف عمّا يخاف فوته ، والحذر عمّا يحذر وقوعه ، والحزن لما يفوته ، والحسرة لما يضيع منه من مال وجاه وبنين وأعوان ، وسائر ما يحبّه ويتّكل عليه ويؤثره ، كلّما نضج جلده بالاعتياد على مكروه والسكون إلى مرارة بدّل جلدا غيره ليذوق العذاب ، بفؤاد مضطرب قلق ،