واعلم : أنّه وإن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف المهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة ، فلو وقف في مهبطه فقد هلك ، ولو رجع إلى سعادته الاولى فقد أتعب نفسه وظلمها ، فهو ظالم لنفسه على كلّ تقدير ، إلّا أنّه هيّأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ما كان ينالها لو لم ينزل ، فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والذلّة والمسكنة والحاجة والقصور ، وله في كلّ ما يصيبه ـ من التعب والكدّ والنائبة ـ روح وراحة في حظيرة القدس وجوار ربّ العالمين ، فلله سبحانه صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلّا المذنبون ، وله سبحانه في أيّام الدهر نفحات لا يرتاح بها إلّا المتعرّضون ، والكلام طويل الذيل سيمرّ بك بعضه فيما سيجيء ـ إن شاء الله ـ
ومن التأمّل في المقام يتّضح : أنّ آدم إنّما خالف أمرا إرشاديّا كما مرّت الإشارة إليه ، ولا ينافيه ما نسبهما سبحانه إليه بقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ، (١) وقوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ، (٢) واعترافهما بالظلم ، (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣) ؛ فإنّ للظلم والمعصية والغيّ مراتب ، فما كلّ ظلم أو معصية فسقا موجبا لدخول النار ، فالغفلة عن الحقّ منشأ كلّ ظلم ونقص ، وليست من المعصية المصطلحة في شيء.
ويستشعر ذلك من قوله سبحانه : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٤) ؛ حيث يدلّ على الاجتباء أوّلا ، ويفرّع عليه التوبة والهداية ، والأمر في التوبة من
__________________
(١). طه (٢٠) : ١٢١.
(٢). البقرة (٢) : ٣٥.
(٣). الأعراف (٧) : ٢٣.
(٤). طه (٢٠) : ١٢٢.