أشارت الآية الأخيرة من الآيات السابقة إلى أقوال المشركين البذيئة ، وعدائهم وإيذائهم للنبي صلىاللهعليهوآله ، أمّا في هذه الآيات فإنّ الله تعالى يهددهم بالعذاب الأليم ، ويدعوهم إلى ترك ما هم عليه ، ويواسي المؤمنين الأوائل ، فيقول تعالى شأنه : (وَذَرْنِى وَالْمُكَذّبِينَ أُولِى النَّعْمَةِ وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً). أي دعني وايّاهم ، واترك عقابهم لي ومهلهم قليلاً. لتتمّ الحجة عليهم ولتظهر ماهيتهم الحقيقية ، ويُثقلوا ظهورهم بالخطايا فعندها يحلّ عليهم غضبي.
ولم يمض كثير حتى ازدادت شوكة المسلمين ، ووجهوا ضرباتهم القوية لأعداء الرسالة ، وذلك في معارك بدر وحنين والأحزاب ، وبالتالي كان العذاب الإلهي ينتظرهم في البرزخ ، حتى يخلدوا بعد ذلك في النار في يوم القيامة.
ثم يقول مصرّحاً : (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا).
«الأنكال : جمع (نكل) ، على وزن (فكر) وهي السلاسل الثقال ، وأصلها من نكول الضعف والعجز ، أي أنّ الإنسان يفقد الحركة بتقييد أعضائه بالسلاسل.
نعم ، لقد تنعموا في الدنيا وأخذوا حريتهم المطلقة ، ولهذا لابدّ لهم من القيود والنار.
وكذا يضيف : (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا).
هذا مصير من كان يتلذذ بالطعام بعكس ما كان طعامهم في الدنيا الحرام ، حيث العذاب الأليم ، ولما تمتع به المغرورون والمستكبرون من الراحة غير المشروعة في هذه الدنيا ، والطعام الموصوف بالغصّة هو بحد ذاته عذاب أليم ، ثم يتبع ذلك بذكر العذاب الأليم على إنفراد ، وهذا يشير إلى أنّ أبعاد العذاب الاخروي لا يعلم شدّته وعظمته إلّاالله تعالى ، ولهذا ورد في حديث أنّ النبي صلىاللهعليهوآله سمع قارئاً يقرأ هذه فصعق (١).
ثم يشرح ما يجري في ذلك اليوم الذي يظهر فيه هذا العذاب فيقول : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً).
«الكثيب : يراد به الرمل المتراكم ؛ والمهيل : من هيل ـ على وزن كيل ـ هو صبّ شيء ناعم كالرمل على شيء ، ويراد بالمعنى هنا الرمل الناعم وما لا يستقر ، والمعنى أنّ الجبال تتلاشى بحيث تظهر بهيئة الرمل الناعم ، وإذا ما ديست بالأقدام فإنّها تطمس فيها.
ثم يقارن بين بعثة النبي صلىاللهعليهوآله ومخالفة الأشداء العرب ، وبين نهوض موسى بن عمران بوجه الفراعنة فيقول تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً).
__________________
(١) تفسير مجمع البيان ١٠ / ١٦٦.