لا تتعدى افق أفكارهم دائرة الطعام والنوم والشهوة ، وتمثل هذه اللذائذ المادية الرخيصة أسمى غاية لهم في الحياة. والعجيب أنّهم قاسوا روح النبي العظيمة بهذا المقياس.
الآية التالية تحذرهم من الاغترار بقوّتهم وقدرتهم ، إذ إنّ الله الذي أعطاهم إيّاها قادر على أن يستردها بسرعة متى شاء ، فيقول تعالى : (نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً).
هنا يشير القرآن إلى نقطة حساسة ، وهي جهاز الأعصاب الصغيرة والكبيرة التي تشدّ العضلات فيما بينها كالحبال الحديدية وتربط بعضها بالبعض الآخر ، وحتى المفاصل والعضلات المختلفة وقطع العظام الصغيرة والكبيرة وأعضاء الإنسان بحيث يتكون من مجموع ذلك إنسان كامل الخلقة مهيأ للقيام بأية فعالية ، وعلى كل حال فهذه الجملة كناية عن القدرة والقوّة.
وتوضّح هذه الآية ضمناً استغناء ذات الله المقدسة ، عنهم ، وعن طاعتهم وإيمانهم ، ليعلموا أنّ الإصرار على دعوتهم للايمان في الحقيقة هو من رحمة الله بهم.
ثم أشار تعالى إلى جميع البحوث الواردة في هذه السورة والتي تشكل بمجموعها برنامجاً متكاملاً للحياة السعيدة ، فيقول تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً).
إنّ علينا إيضاح الطريق ، لا اجباركم على اختيار الطريق ، وعليكم تمييز الحق من الباطل بما لديكم من العقل والإدراك ، واتخاذ القرار بإرادتكم واختياركم ، وهذا تأكيداً على ما جاء في صدر السورة في قوله : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).
وقد يتوهّم بعض السذّج من العبارة أعلاه أنّها تعني التفويض المطلق للعباد ، فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا).
وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو (الأمر بين الأمرين) ، إذ يقول من جهة : (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ). فعليكم أن تختاروا ما تريدون ، ويضيف من جهة اخرى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ). أي ليس لكم الإستقلال الكامل ، بل إنّ قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية ، وهو قادر على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء.
من هذا يتّضح أنّه لا جبر ولا تفويض في الأوامر ، بل إنّها حقيقة دقيقة وظريفة بين