ثم يشير القرآن إلى هذا الأصل وهو أنّ صفحة أعمال الأقوام السابقة لم تنته بموتهم ، بل هي باقية ومسجّلة عليهم ، يقول سبحانه : (وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ). فكذلك أعمالكم مثبّتة ومحفوظة ليوم الحساب.
«زبر : جمع زبور بمعنى الكتاب ، وهي تشير إلى صحيفة أعمال الإنسان.
ثم يضيف سبحانه : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ).
وبناءً على هذا فحساب الأعمال في ذلك اليوم هو حساب شامل وتامّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، حيث يستلم المجرمون صفحة أعمالهم كاملة ، فيصعقون لهولها ويصطرخون لدقّتها : (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتَابِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (١).
ولما كانت السنّة المتّبعة في القرآن الكريم غالباً ما تعتمد المقارنة بين جبهة الصلاح والهدى من جهة ، وجبهة الفساد والضلال من جهة اخرى ، لأنّ في المقارنة يبرز التفاوت والاختلاف بصورة أفضل ، فهنا أيضاً بعد الحديث عن مصير الكفار والمجرمين يشير سبحانه إشارة مختصرة إلى العاقبة السعيدة والحبور العظيم الذي يكون من نصيب المتقين حيث يقول سبحانه : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ).
وفي آخر آية مورد البحث والتي هي آخر آية في سورة القمر يوضّح الباريء بصورة أكثر (مستقر المتقين) حيث يقول سبحانه أنّهم : (فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ).
ويا له من وصف رائع وظريف! حيث إنّ هذا الوصف يتميّز بخصوصيتين تجمعان كل السمات الرائعة :
الاولى : أنّ المكان هو (مستقرّ صدق) وليس فيه باطل ، بل كلّه حق يجد فيه المتقون كل ما وعدوا به كاملاً غير منقوص.
الثانية : أنّهم في جوار وقرب الله سبحانه ، وهذا هو المستفاد من كلمة (عند) والذي يشير إلى غاية القرب المعنوي ، وهذا القرب هو من الله المالك القادر ... ما أروعه عن قرب من الربّ الكريم الوهّاب والذي يمنح العطايا والهبات لضيوفه المتقين بجميل لطفه وعظيم إحسانه وواسع كرمه ، حيث جميع ما في الوجود تحت قبضته وإمرته ومالكيته ، وهو المنّان
__________________
(١) سورة الكهف / ٤٩.