صدرت منه المعاصي الموبقة بعد ذلك ، ورضا الله تعالى عن أهل بيعة الحديبية ليس مستلزما لرضاه عنهم إلى الأبد ، والدليل على ذلك قوله تعالى في هذه السورة في شأن أهل هذه البيعة ، وتعظيمها :
(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ ، إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ، يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.)
فلو لم يجز أن يكون من المبايعين من ينكث بيعته ، وكان رضا الله عنهم مستلزما لرضاه عنهم إلى الأبد لا فائدة لقوله : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ.)
وأيضا قد دلت آيات من القرآن ، وأحاديث صحيحة على وقوع غضب الله تعالى وسخطه على من يرتكب بعض المعاصي ، ومع ذلك لم يقل أحد بأن هذا مانع من حسن إيمانه في المستقبل ، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الأنفال :
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ ، أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ :) ٨ ، ١٦.
فإذا لم يكن بوء شخص ، أو قوم إلى غضب الله مانعا من حسن حاله في المستقبل لم يكن رضاه أيضا سببا لعدم صدور فسق ، أو كفر من العبد بعد ذلك.
والقول بدلالة الآية على حسن حال المبايعين مطلقا ، وعدم تأثير صدور الفسق عنهم في ذلك مستلزم للقول بوقوع التعارض بين هذه الآية ، وبين آية الأنفال المذكورة فيمن ولّى دبره عن الجهاد من المبايعين لأنّها أيضا تدل باطلاقها على سوء حال من يولّي دبره ، وعدم تأثير صدور الحسنات في رفع ذلك.