حديثه عن النبي خاصة ، وهو جهد محمود خصب بذله المتقون من علماء الحديث وأخلصوا فيه ما وجدوا إلى الإخلاص سبيلا. ولكن هذا الجهد على شدته ، وخصبه لم يكن كافيا ، فمن أعسر الأشياء وأشدّها تعقيدا ، أن تتبع حياة الناس والبحث ، والفحص ، والتنقيب عن دقائقها ، فمن الممكن أن تبحث وتنقب دون أن تصل إلى حقائق الناس ، ودقائق أسرارهم ، وما تضمر قلوبهم في أعماقها ، وما يمعنون في الاستخفاء به من ألوان الضعف في نفوسهم ، وفي سيرتهم أيضا.
ولم يكن بد إلى أن يضاف إلى هذا الجهد جهد آخر ، وهو درس النّص نفسه. فقد يكون الرجل صادقا مأمونا في ظاهر أمره بحيث يقبل القضاة شهادته إذا شهد عندهم ، ولكن الله وحده هو الّذي اختصّ بعلم السرائر ، وما تخفيه القلوب ، وتستره الضمائر ، وقد يكون الرجال الذين روى عنهم حديثه صادقين مأمونين مثله يقبل القضاة شهادتهم إن شهدوا عندهم. ولكن سرائرهم مدخولة يخفى دخائلها على الناس ، فلا بد إذن من أن نتعمق في نصّ الحديث الذي يرويه عن أمثاله من العدول ، لنرى مقدار موافقته للقرآن الّذي لا يتطرّق إليه الشك ، ولا يبلغه الريب من أيّ جهة من جهاته ، لأنّه لم يصل إلينا من طريق الرواة أفرادا ، أو جماعات ، وإنّما تناقلته أجيال الأمة الإسلامية مجمعة على نقله في صورته التي نعرفها.
وهذه الأجيال لم تنقله بالذاكرة ، وإنّما تناقلته مكتوبا ، كتب في أيام النبي نفسه ، وجمع في خلافة أبي بكر ، وسجّل في المصاحف ، وأرسل إلى الأقاليم في خلافة عثمان ، فاجتمعت فيه الرواية المكتوبة ، والرواية المحفوظة في الذاكرة ، وتطابقت كلتا الروايتين دائما ، فلا معنى للشك ، في نص من نصوص القرآن لأنّها وصلت إلينا عن طريق لا يقبل فيها الشك.