الثالث : أن الاية الكريمة صرحت بأن السبب المانع عن الارسال بالايات هو تكذيب الاولين بها ، وهذا من قبيل تعليل عدم الشئ بوجود مانعه. ومن البين أن التعليل بوجود المانع لا يحسن في نظر العقل إلا إذا كان السبب المقتضي لوجود ذلك الشئ موجودا. ولذلك يقبح عند العقلاء أن يعلل عدم احتراق الخشبة ـ مثلا ـ بوجود الرطوبة عليها إذا كانت النار غير موجودة ، وذلك واضح لا يقبل الشك. وإذن فلا بد وأن يكون المقتضي للارسال بالايات موجودا ، ليصح تعليل عدمه بوجود التكذيب. والمقتضي للارسال لا يخلو من أن يكون هي الحكمة الالهية لارشاد العباد وهدايتهم إلى سعادتهم. وأن يكون اقتراح الامة على النبي شيئا من الايات زائدا على المقدار اللازم من الايات لاتمام الحجة. أما إذا كان المقتضي للارسال بالايات هي الحكمة الالهية ، فلا بد من إرسال هذه الايات ، ويستحيل أن يمنع من تأثير الحكمة الالهية شيء لانه يستحيل على الحكيم أن يختار في عمله ما تنافيه حكمته ، سواء في ذلك وجود التكذيب وعدمه ، على أن تكذيب الامم السابقة لو صلح أن يكون مانعا عن تأثير الحكمة الالهية في الارسال بالايات ، لصلح أن يكون مانعا عن إرسال الرسول. وهذا باطل بالضرورة. وخلاف للمفروض أيضا. فتعين أن يكون المقتضي للارسال بالايات هو اقتراح المقترحين. ومن الضروري أن المقترحين إنما يقترحون امورا زائدة على الايات التى تتم بها الحجة ، فإن هذا المقدار من الايات مما يلزم على الله أن يرسل به لاثبات نبوة نبيه ، وما زاد على هذا المقدار من الايات لا يجب على الله أن يرسل به ابتداء ، ولا يجب عليه أن يجيب إليه إذا اقترحه المقترحون. نعم لا يستحيل عليه ذلك إذا اقتضت المصلحة أن يقيم الحجة مرة ثانية وثالثة ، أو أن يجيب المقترحين إلى ما طلبوا.
وعلى هذا فاقتراح المقترحين إنما يكون بعد إتمام الحجة عليهم بما يلزم من الايات ، وتكذيبهم إياها. وإنما كان تكذيب الامم السابقة مانعا عن الارسال